ها قد رحل رمضان كما رحل غيره.. بالأمس استقبلناه بالتبريكات والاستعداد للطاعة والعبادة.. واليوم ودعناه على أمل أن نلقى ضيفنا العزيز في رمضان قادم.. رحل رمضان ورحلت أيامه ولياليه الجميلة المليئة بالخيرات والذكريات والقربات والطاعات.. رحل بعد أن دربنا وذكرنا وغرس فينا كل صفات الخير.. رحل بعد أن كتب لنا في سجل الذكريات كل خير قمنا به، وكل طاعة تعودنا عليها، وكل مسير للخير مشينا في ركابه وتحت ظلاله.. فبأي حال نودعك يا رمضان؟ بأي حال نودعك ونفوسنا تبكي لفراقك، وحال الأمة لا يسر قريب ولا بعيد؟ بأي حال نودعك ونفوسنا المقصرة بذلت فيه بعمل زهيد تسأل الله تعالى أن يتقبله منها.
لست أدري كيف أكتب كلمات فراق رمضان.. ولست أدري هل أكتبها كما اعتدت أن أكتبها في كل عام عند رحيل هذا الضيف الحبيب إلى قلوبنا؟؟ أجبت سريعاً.. لا لن أقوى أن أكون بنفس تلك الحالة.. ولن أقوى أن أسطر هاهنا عبارات الفراق الحقيقية.. لأن فراق رمضان فراق صعب على نفوسنا، لأنه بالفعل يعطينا حياة متغيرة في كل شيء، وبرامج رائعة في كل شيء.. لا تحس بلحظات عادية أبداً.. لا تحس أنك تعيش فقط لقضاء الأوقات وإن كانت في الخير.. بل تحس أنك تعيش في دوحات إيمانية عطرة، تعيش في سوانح حلوة تتلذذ بها.. تحس بأنها نسيم من نسائم الجنة.. رحمات وطاعات وبركات وتبتل.. والأجمل من ذلك الشعور الرائع في العشر الأواخر.. عندما تتسابق من أجل أن تدرك ليلة القدر.. ليلة تتنزل فيها الملائكة.. ويكتب فيها الأجر..
تساءل واكتب إجاباتك في «صفحات قلبك».. لأنك بعد رمضان ستحتاجها لتجديد مسيرك نحو الخير..
هل قمت بواجبك على الأوجه الأكمل في طاعة الرحمن خلال هذا الشهر الفضيل؟
هل استطعت أن تقوم الليل لتدرك فيه ليلة القدر وقمتها بالفعل.. إيمانا واحتسابا؟
هل وفقت في قراءة كتاب الله تعالى وتدبر معانيه، وكان لك شرف ختمه عدة مرات؟
هل فطرت صائماً وتصدقت على فقير أو مسكين وساهمت في دعم المحتاجين؟
هل وفقت لاعتكاف ولو قصير في بيت من بيوت الله؟
هل كان لك النصيب الوافر من الاستغفار والتسبيح والتهليل؟
هل أكثرت من الدعاء في سجودك وعند فطرك؟
هل أحسست بأن نفسك قد انتقلت إلى طور جديد من الطاعة والقرب من الله تعالى والبعد عن كل ما يغضبه؟
هل كنت صادقاً في توبتك وإنابتك وعزمت على عدم العودة لكل إثم أو ذنب أو معصية؟
وبعد إجابتك لتلك الأسئلة، قف عدة وقفات في إقبالك على ربك بعد رحيل رمضان، ولا بد أن تسعى جاهداً لتحافظ على خير وفقت إليه في هذا الشهر الفضيل، فلا ينقطع عن حياتك أبداً، فأحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قلَّ.. والمسلم عليه أن يحافظ على ما اعتاده وتدرب عليه من خيرات وقربات في شهر رمضان المبارك، ولا يقطعها بعد رمضان، وإن استمر عليها بصورة أقل عن السابق.. فعن علقمة قال: (سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه قال، قلت: يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل كان يخص شيئا من الأيام؟ قالت: لا كان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع) صحيح مسلم. وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبدالله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل» صحيح البخاري.
فرمضان رحل ولكن لم ترحل الصلوات والمحافظة عليها جماعة في المسجد..
رحل رمضان ولم يرحل القيام والتلذذ به في جوف الليل الأخير..
رحل رمضان ولم يرحل الدعاء والمناجاة ومجالسة الصالحين واستغلال مواطن الأجر والمثوبة..
رحل رمضان ولم يرحل الصيام الذي شرعه لنا المولى تعالى في عدة مناسبات فيها أكبر الأجور..
حافظ على كل عمل اعتدت القيام به في شهر الخير.. حافظ على كل فعل خير قمت به، ولا تكن كمن فعل الخير ثم تركه كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.. لتكن صفحاتك بعد رمضان صفحات ناصعة البياض، تبدأ فيها من جديد بحياة أجمل وأحلى بقربك من الله تعالى، وبمحافظتك على جلائل الأعمال.. فلا يفتر نشاطك أبدا، وليكن مآله إلى الطاعة الدائمة الصادقة، وإلى عمل صالح مستمر، تقتنص من خلاله كل خير يقربك إلى الله تعالى، وتستعد «الاستعداد الدائم المستمر» لساعة الرحيل الحقيقية من الدنيا.. فسوف نرحل كما رحل رمضان.. فطوبى لمن أحسن صناعة رحيله الجميلة من الدنيا.. بعمل صالح مستمر.. اللهم تقبل منا رمضان، واجعله شاهدا لنا لا شاهدا علينا، واجعلنا ممن أعتقت رقابهم فيه من النار، وأعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة.