*قيل في الأثر: إذا قضى الله لرجل أن يموت بأرض، جعل له إليها حاجة فيسيره إليها. ويقول ابن الجوزي رحمه الله: «يجب على كل من لا يدري متى يبغته الموت، أن يكون مستعداً، ولا يغتر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت من الأشياخ، وأكثر من يموت من الشباب، ولهذا يندر من يكبر، وقد أنشدوا:
يعمر واحد فيغر قوماً وينسى من يموت من الشباب.
*مر كل شيء بسرعة، ومضى القطار أمامنا كلمح البصر.. لم ندرك جميعاً أنها مشاهد الرحيل الأخيرة.. لم نستوعب أن تكون هي «الصورة الأخيرة» التي نلتقطها معها قبل أن تنصرف.. هي كذلك أختنا العزيزة «نجلاء أم فارس» زميلتنا في مساحات الخيرية الملكية في خدمة الأيتام والأرامل والمحتاجين.. انتقلت إلى بارئها بعد رحلة قصيرة مع المرض لم يمهلها كثيراً.. الكثير من الزملاء في المؤسسة لم يستوعبوا الخبر.. بل لم يعرفوا كيف يتعاملون معه.. لأنهم لم يعتادوا أن يرحل من أمامهم أحد الموظفين الذين اعتادوا أن يشاهدوه كل يوم.. ولكن هي الحكمة الربانية التي اقتضت أن يكون الرحيل بهذه السرعة.. وأن يسدل الستار على حياة العطاء في خدمة الآخرين.. هي حكمة قلتها لزملائي: تربية لكم حتى تعرفون حجم هذه الدنيا، وسرعة انقضائها.. وقصرها.. لم تكن أم فارس الموظفة العادية التي يمكن أن تمر سيرتها مرور الكرام.. بل كانت مثالاً للموظفة المتميزة المثالية في عطائها وصبرها وحسن تعاملها مع المواقف.. فهي أول عنصر نسائي عمل في المؤسسة وكانت من المؤسسين لولادة ناجحة لعمل خيري يخدم الأيتام والأرامل والمحتاجين.. عاصرتها في العديد من المواقف، وزاملتها في إدارتنا العزيزة «خدمات العملاء» فكانت تعمل بإخلاص وتفان بعيداً عن المزايدات والتجاذبات والقيل والقال.. ولعل هذه السطور لا تفيها حقها.. وللزمن.. أذكر آخر مواقف «الوفاء والرقي» معها في مؤسستنا الحبيبة الخيرية الملكية.. فقد حدث أن كلفت بمهمة ما في العمل، قامت على أثرها بزيارتي في المكتب للمتابعة.. وبعدها بيوم أتت مسرعة تعتذر مع إنها لم تكن سبباً في الموضوع، ولا يستدعي اعتذارها.. قالتها وكبرت عندي مكانتها «لمكانتك واحترامي لك».. رحمها الله بواسع رحمتها وأسكنها فسيح جناته وألهم أهلها الصبر والسلوان.
*يقول المولى عز وجل: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..». ابدأ بتغيير نفسك وتعليمها قبل أن تنصب نفسك فقيهاً أو عالماً للآخرين.. ابدأ بتغيير طبائعك، وابدأ بها قبل أن تتربع على عرش القيادة وتدعي البصيرة والعلم.. فأنت من تصنع نفسك، وتصنع نجوميتك في سماء العطاء.. كن شرياناً ينبض في جسد الهمة والعطاء في ميادين الخير.. لا تنتظر أن يرسم لوحتك الآخرين.. بل أنت من يختار ألوانها ويعرف كيف يبرز بريقها في مساحات القلوب.. بادر وقدم واستشر واستفد من تجارب الخبراء والحكماء في مسير الحياة.. ولا تضيع أوقاتك في القيل والقال وكثرة السؤال.. ولا تهدر جهدك في توافه الأمور والاعتراض على موازين البشر.. بل ليكن همك الأكبر، وغايتك المنشودة إرضاء ربك، وتنقية نفسك من الشوائب، وربطها بأجر الآخرة.. فأنت تعمل من أجل أن تجهز مكانتك في جنان الخلد.. وتأمل هذه المقولة:
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً بالطوب يرمى فيلقي أطيب الثمر.
*من العيب أن تمر عليك تجارب الحياة دون أن تتعظ بمواقفها، ودون أن تكون لك دروساً في الحياة.. فحكمتك تبنيها وشخصيتك تقومها بتجارب الأيام.. حينها ستمحو كل أثر سيء قابلك به أحبابك.. لأنك على يقين «بسلامة صدرك» من الأضغان.. ولكن ستضع معها حدود التعامل مع الشخصيات ومع مواقف الحياة، بما يضمن لك الابتعاد عن ضير المشكلات والهموم.
*الشاب النجيب والكابتن سعيد سيف الغافري من الأبناء البررة الذين تشرفت بأن يكون معنا يوماً ما في ميادين الخير.. نشأ سعيد في بيئة تموج بالتحديات، وتيتم وهو صغير، حيث توفي والده ومن ثم والدته.. وتفوق في دراسته وأخلاقه.. عندما قمنا بتنظيم الحفل الثالث عشر لتكريم الطلبة المتفوقين في المؤسسة الخيرية الملكية، بعث لي برسالة جميلة، مفادها: «الله يبارك في جهودكم وفي ميزان حسناتكم أستاذي.. كان لي الشرف أن أكون ضمن الدفعة الأولى والثانية، ومازلت أتذكر الفرحة التي كانت في وجوه جميع الطلبة المتفوقين». هي البصمة التي لا تنسى في ميادين الحياة..
*عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» رواه الترمذي. بادر بالأعمال الصالحة قبل فوات الأوان، واترك أثرك الجميل قبل حلول ساعة الرحيل.. لا تؤجل طاعة، ولا تترك ميدان خير إلا وقد تركت فيه أجمل الآثار.. كن قوي الإرادة وثابر وحافظ على الأعمال وإن قلت.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل».
ومضة أمل
أحب أن أكون بقربك يا إلهي.. أتلذذ بمناجاتك.. أدعوك وأسكب الدمع ندماً على فوات أعمار مضت بلا عطاء في ظل الحياة الزائل.. يا رب كن لي عوناً وسنداً في ساحات الأمل.