أذكر أنه في أحد النقاشات السابقة قبل سنوات، مع مجموعة رائعة من طاقات هذا الوطن الجميل، طُرحت جدلية معنية بثقافة «الشكر»، بمعنى توجيه الشكر لمن يستحقه، وانقسم الحاضرون بين مؤيد ومعارض، والقسم الأخير كان يرى توجيه الشكر يحرف المواضيع عن أصولها، خاصة لو كان موجهاً لجهات أو أفراد هي تقوم بعملها أصلاً.

شخصياً لست مع القول بأنه لا يشكر صانع الخير أو صاحب العمل الجيد، إذ ثقافة الشكر هي أصلاً من صلب ديننا الحنيف، وهي ظاهرة سعى الرسول صلى الله عليه وسلم لترسيخها لدى أمته، بهدف تعزيز لحمة المجتمع، وقبلها بهدف إيصال رسالة أعظم، معنية بشكر المولى سبحانه وتعالى.

«في الحديث الشريف تروي أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكورا؟».

كنت أسمع مقولة دائماً يرددها البعض «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»، فبحثت في أصلها ووجدت أنها حديث شريف عن رسولنا الكريم، وبحثت في موقع الشيخ العلامة إبن باز فوجدت رداً له على سائل بشأن هذا القول وهل هو حديث صحيح أو ضعيف، فكان رد الشيخ بالآتي: نعم، هذا حديث صحيح، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»، يعني أن من كان من طبيعته وخلقه عدم شكر الناس على معروفهم وإحسانهم إليه فإنه لا يشكر الله، لسوء تصرفه ولجفائه، فإنه يغلب عليه في مثل هذه الحال أن لا يشكر الله. فالذي ينبغي للمؤمن أن يشكر على المعروف من أحسن إليه من أقارب وغيرهم، كما يجب عليه شكر الله سبحانه وتعالى على ما أحسن إليه فعليه أن يشكر الناس أيضاً على معروفهم إليه وإحسانهم إليه، والله جل وعلا يحب من عباده أن يشكروا من أحسن إليهم، وأن يقابلوا المعروف بالمعروف، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه»، ولهذا يشرع للمؤمن أن يدعو لمن دعا له، وأن يقابل من أحسن إليه بالإحسان، وأن يثني عليه خيراً في مقابل إحسانه إليه، وبذل المعروف له، فهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.

وعليه، فإن الشكر لا يمثل ضعفاً من قبل الشخص، كما يراه البعض، أو خنوعاً كما يظنه آخرون، أو تزلفاً ورياء كما يمضي بعض لتفسيره، بل هو تطبيق لتعاليم الدين وهدي نبوي أصيل.

هي ممارسة نفسية صحية، حينما توجه الشكر لمن يستحقه، وأولهم هو المولى عز وجل، شكره على خلقه لك، وأن هداك للطريق القويم، وأن منحك الصحة، وكتب لك النجاح، وأمدك بالمال والبنين، وإن طالك فرح وسعادة، فهو كتبه لك في قدرك، وإن مررت بمحنة فاعلم أنها اختبار تجزى عليه، أو تذكير إلهي بتقصيرك مغزاه أن تعود إليه. فالله أحب شيء إليه هو عودة عبده له، وتوبته، وحينما ترتفع الأكف بصدق تجاه خالقها لا يوجد بينها وبين الله حجاب.

هذا ما قاله رسولنا في «جوامع كلمه» بجملة قصيرة جداً، فهو صلى الله عليه وسلم ضامن للجنة وفي أعلى عليين، ومغفور ذنبه كله، ومع ذلك هو أكثر الشاكرين لله، أكثر الملتزمين بواجبات دينه، لأن كل ما أسبغ عليه «نعم»، إزاءها يجب أن يكون شاكراً مقدراً.

ولا يقف الشكر عند الخالق وحده، بل الحديث الآخر في تأسيس لثقافة مجتمعية راقية، حينما تشكر من يسندك ويدعمك، ومن يقدم لك الخير والمعونة، ومن له فضل عليك بعد الله، ويأتي في مقدمة الركب والدك ووالدتك والأقربون من الأقارب والأصدقاء.

في ظل زحمة الدنيا، أغلبنا مقصرون في ذلك، أقلها في حق والدينا، ننسى حين كنا صغاراً تفاصيل التفاصيل، كيف كنت رضيعاً ضعيفاً فحموك وكبروك، كيف أن برهم هو شكر، وكيف أن حسن المعاملة عند الكبر شكر، وكيف أن شكرهم هو شكر لرب العالمين، والدعوة لهم شكر، وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا.

وكذلك في كل ممارسات حياتك، من لا يشكر الناس حينما يكونون أصحاب فضل عليه، لا يشكر الله. من لا يشكر فعل الخير وأهله لا يشكر الله. من لا يشكر صانعي الفرح، ومفرجي هموم الناس، والعاملين بإخلاص لأجل خير بلادهم، من يضحون بأنفسهم لسلامة البشر، من يسهرون الليل لحماية الناس، من يمشون في الأرض بالصدق والطيب والعمل الصالح، والقائمة تطول، لا يشكر الله.

اللهم ثبتنا على دينك، واجعلنا من الشاكرين الحامدين لك على نعمك، وعلى اختبارات محنك.