مساء السابع من نوفمبر 1973 التقى الصحافي المصري الشهير محمد حسنين هيكل بـ«ثعلب» السياسة الأمريكية هنري كيسنجر، الذي فاجأ هيكل بشرط لبدء النقاش، مضمونه ألا يتحدث عن التاريخ بل «عن الواقع الراهن هذه اللحظة، لأننا من هنا نبدأ»، وكذلك ألا يشمل الحديث مفهوم الأمة العربية، لأن كيسنجر يعرف شعباً مصرياً ولم يثبت لديه وجود أمة عربية!

هذه الواقعة التي أوردها هيكل في كتابه «الزمن الأمريكي: من نيويورك إلى كابول» تشير إلى شكل من أشكال التفكير الاستراتيجي الأمريكي. هذا التفكير، لا يعرف التاريخ كمفهوم للنقض أو الاستشهاد من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يعترف بالأيديولوجيا كوجه ثابت لتحقيق الغايات.

من هنا، يكون من يحفر في التاريخ، مستخرجاً الجرائم الأمريكية التي تجاوز سوادها لون «أبارتهيد» جنوب أفريقيا وروديسيا، بغية إحراج السياسة الأمريكية، كمثل حرب اليابانيين النفسية على الجنود الأمريكيين خلال الحرب العالمية الثانية، إذ بثوا إشاعة مفادها «أيها الجندي الأمريكي.. ارجع إلى بيتك فإن زوجتك تخونك مع عشيقها». فشلت الطريقة اليابانية طبعاً، لأنهم لم يعرفوا العقلية الأمريكية التي لو اُستبدلت الإشاعة بـ«ارجع إلى بيتك فقد خسرت ثروتك» لكانت أكبر تأثيراً فيها! الشاهد، أن البحث في مخازي التاريخ لنقض واقع أمريكي، يـُجابـَهُ جزماً بمنطق كيسنجر «من هنا نبدأ»، لأن أداة التاريخ مستثيرة للعاطفة بوخز الضمير، وهذا لا ينفع هنا.

مناسبة ما سبق، طريقة التعاطي مع تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن أوضاع حقوق الإنسان لعام 2017، الذي خصص نحو 40 صفحة منه لعرض واقع مملكة البحرين بحسب ما تراه الإدارة الأمريكية. للأمانة، درجتْ العادة كل عام على إصدار الخارجية الأمريكية تقريراً كهذا، يُرد عليه رسمياً باعتباره مجموعة مغالطات تُردف بعبارة «مع الأسف الشديد»، ويكون الرد شبه الرسمي تثبيتاً لنظرية المؤامرة على البحرين والخليج العربي... إلخ.

التقرير عبارة عن تجميع لتقارير شاملة وجزئية تصدرها منظمات حقوقية مختلفة مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان «Human RightsWatch». هذه المنظمات تأخذ جزءاً مهماً من معلوماتها عن منظمات قـُطْرِيـَة ومحلية، غالباً ما تكون مسيسة ضد الأنظمة. يوازن التقرير الأمريكي هذه المعلومات بنظيرتها الموجودة في التقارير والإحصاءات الرسمية، بحيث يـُوجـِدُ نصوصاً متقابلة بين البيانات الرسمية وتلك الوقائع المدعاة في التقارير الحقوقية المنتـَقـِدَة للأداء الحكومي. هنا بطبيعة الحال يكمن الخلل المنهجي في الرصد باعتبار التقارير الرسمية شمولية وتخلو من التفاصيل، في المقابل تُكـَمـَّـلُ التفاصيل من الوقائع المدعاة في البيانات الحقوقية المضادة، ما يسم الوضع المرصود -دون أدنى جدل- بـ«الانتهاكات الحقوقية».

لا يعني الشرح السابق أن كاتب التقرير ذو «نية حسنة»، فهناك إشارات واضحة تؤكد التبني العمدي للوجهات المسيسة، فمثلاً، أورد التقرير حادثة الهجوم المسلح على سجن جو في الأول من يناير 2017 التي أدت إلى مقتل رجل أمن وهروب 10 سجناء، وقد استخدم كاتب التقرير لفظ «freeing» بدلاً من «escaping» في وصف هروب المساجين. واضح هنا التبني للوجهة الحقوقية المسيسة في كون هؤلاء السجناء سياسيين لا جنائيين، وبالتالي يكون هروبهم تحرراً لا إفلاتاً من العدالة.

يسترسل التقرير في «المخاوف» التي يلقيها نشطاء ومجموعات حقوقية، فمثلاً، عندما تـَحـَدَث عن دور الأمانة العامة للتظلمات في تلقي الشكاوى المكتوبة والقيام بالمقابلات الشخصية للمساجين المضرورين، أورد التقرير الرأي المقابل الذي يبدي تخوفه من حدوث حالات انتقام على المشتكين من قبل السـَجـَّانين، ولكن دون تقديم أي واقعة تذكر. من ذلك أيضاً، ما ورد عن الرقابة المستقلة التي تقوم بها أجهزة من قبيل المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، إذ يتساءل التقرير «على لسان حقوقيين» عن فعالية هذه الصلاحية، خالصاً إلى أن «التحقيقات هنا غير مجدية أو لا تمنع سوء المعاملة»، وذلك رغم عدم إيراده ما يثبت هذا الزعم.

التشكيك هو الأصل في التقرير، مثال ذلك، عندما أورد ملابسات وفاة المطلوب للعدالة عبدالله العجوز، المدان بجريمة قتل والمحكوم غيابياً بالسجن مدى الحياة، بين أن أهل العجوز يدَّعون أن سبب الوفاة عيار ناري أطلق عليه أثناء المطاردة فوق أسطح المنازل، بينما يفيد تقرير الداخلية أن سبب الوفاة السقوط من على الأسطح هرباً من مطاردة رجال الأمن. يشير التقرير الأمريكي هنا إلى أن الصور المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لجثة العجوز لم تبين آثار طلق ناري، لكنه يعود ويقول إن تقرير الطبيب الشرعي لم يحدد سبباً للوفاة، رغم أن هذا التقرير الأخير أكد أن سبب الوفاة الارتطام بفعل السقوط من مرتفع! لم يقف التقرير الأمريكي هنا، إذ إنه في تعريض واضح يحاول تبيان خوف الحكومة من «افتضاح الجريمة»، لفت إلى أن «الإعلام المعارض ذكر أن الحكومة ضغطت على أسرة العجوز للإسراع في دفنه».

رغم أن التقرير يناقش مسألة الحريات العامة، إلا أنه يدعو إلى شأن نقيض لها، فتحت عنوان «العداء للسامية» (Anti-Semitism) يورد أن هناك مجموعة من «المعادين لليهود» -وليس للسامية- من المعلقين السياسيين ورسامي الكارتون نشروا مواد في الإعلام البحريني الورقي والإلكتروني متعلقة بـ«الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي» تسيء إلى الأسر اليهودية القاطنة البحرين، وذلك دون أن يكون هناك رد فعل من الحكومة! والواقع أن هذا خلط، يدمج أولاً الديانة اليهودية بالممارسة الصهيونية. ويلغي ثانياً خصوصية الثقافة العربية التي لم تعترف رسمياً بوجود دولة اسمها إسرائيل، معتبرةً إياها كياناً غاصباً على أرض عربية، يجب مقاومته بكل الوسائل الممكنة التي من بينها الآلة الإعلامية. ويلمز ثالثاً في وطنية الأسر اليهودية التي تنتمي إلى البحرين وهي جزء لا يتجزأ من الوطن العربي.

هذه ملامح بسيطة عن تقرير تملؤه ملاحظات مهنية كثيرة، ويبقى خير وجاءٍ لأي ادعاءٍ، تدعيم جمعيات أهلية حقوقية ذات درجة عالية من المهنية، تُعطى من ضمن أمور كثيرة «التفرغ الحقوقي»، بحيث تكون قادرة على إنجاز تقارير حقوقية بعيدة عن حبر «الدم» ونجس «السياسة»، كحال هذا التقرير الأمريكي وأشباهه.