الكثيرون ممن يعملون في القطاع الحكومي من الموظفين يعبرون بين الفينة والأخرى عن استيائهم من بعض الأساليب التعامل الإدارية "غير المنصفة" بحقهم في بعض القطاعات، كما يصفونها.

هذا نمط عام يسود كثيراً من القطاعات، إذ لابد وأن تجد فئات تشكو من انعدام العدالة في التقدير، وأن هناك للأسف حالات "تحيز" بحق أفراد على أفراد، ومجموعات محسوبة على المسؤول، ومجموعة مبعدة عنه.

هناك من يجزم بوجود حالات ظلم وظيفي، حينما يتم "خلخلة" معادلة الموظف المنتج والموظف الخامل، وأن كثيراً يظلمون لأن عمليات التقدير تتم وفق أسس "مزاجية" وليست وفق أسس علمية ومهنية وإدارية.

لو جئت لتحل كل المشكلات التي يعاني منها الموظفون في كافة قطاعات الدولة، ستحتاج لعقود متواصلة، بينما الحل الأمثل يكمن دائما في "الرأس"، أي المسئول عن القطاع، فهو إن "صلح" صلح القطاع كله، ومضي ليعمل موظفوه بشكل صحيح ومنتج، ولو "فسد" فإن الخراب سيعم، وحقوق المجدين يأكلها الأفاقون والمتمصلحون.

كيف نعالج هذه الظاهرة؟! كيف نحمي الموظف المجد والمجتهد وصاحب الكفاءة من الظلم والتعسف؟! هل نبدأ من الرؤوس بحيث يغير السيء إدارياً ويؤتى بآخر أفضل منه؟! أو نبدأ من الموظفين أنفسهم، فنقيم أدائهم ونصنف من يعمل فعلاً، وبين من يتحايل على أنظمة العمل، ويعمل على تطوير أساليب النفاق والتملق والكذب؟!

كلها أساليب يمكن أن تحقق الهدف المنشود الذي يعالج قطاعاتنا من أمراض إدارية مزمنة، ضحاياها البشر. لكن الفارق بينها يتمثل بـ"المدى الزمني" وأي الحلول أسرع، أيها أكثر نجاعة؟!

تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية وجدت لتضع اليد على مواضع الخلل الإداري، وهي قادرة أن تكشف القطاعات التي تعاني من سوء إدارة ومن هدر مالي. لكن للأسف، حتى اليوم لم نستفد من هذه التقارير في إحداث تغييرات إدارية قوية، تصل لمنبع الخلل وتصلحه، أو تبدل المعطوب.

لذا، من الضروري اليوم، أن يكون القسم الذي يؤديه كبار المسؤولين في الدولة متضمناً لقسم إداري، فيه تعهدات بإرساء أسس العدالة والمساواة والإنصاف ومحاربة الظلم والتمييز بين أبناء الوطن من الموظفين، فيه إقرار بأن المسؤول سيكون صاحب ضمير حي دائماً، يقيس الأمور بحيادية، ولا ينغمس في صناعة حاشية تابعة له، في المقابل يصنع جبهات مضادة، تبدأ أنويتها من موظفين يغرس فيهم الإحساس بالقهر والظلم.

على المسؤول أن يحرص أشد الحرص ألا يظلم أحداً، أن يكون مصدر إشعاع وإلهام لأصغر موظف حتى أكبرهم، من ناحية الإخلاص في العمل، والتفاني، وتركيز الأهداف على خدمة الوطن، والولاء لملكنا حفظه الله "عراب" المشروع الإصلاحي الذي يقف على أعمدة قوية هي العدالة والشفافية والتطوير والبناء.

الاستياء الوظيفي يزداد حينما تزداد المشاكل وتبقى بلا حلول، خاصة المشاكل الواضحة للعيان، والتي يفترض أنها تصل بسهولة للمسؤول الأول عن القطاع، ما يعني الترقب لتدخله الحازم لإحقاق الحق، لكن لو تأخر هذا التدخل، وتركت الأمور على عواهنها، هنا نغرس بذرة إحباط في نفوس الموظفين، تكبر يوما إثر يوم، عندما تتزايد الأخطاء، وعندما تهضم الحقوق، وعندما يصعد نجم المتملقين وعديمي الكفاءة إلا في التطبيل والمديح.

القبعة ترفع دائماً للمسؤول العادل، الرجل القوي في إدارته، الصعب في مواجهة الإغواء الإداري سواء عبر التحول لفريسة سهلة لمحترفي التصبيغ والنفاق، الرجل الذي يضع البلد أمامه، ويضع أبناء الوطن في عينيه، فيعمل على تطويرهم وتأهيلهم وفتح أبواب الفرص أمامهم، والأهم يحميهم من كل الشرور وكيد الكائدين في القطاعات.

وعليه العلاج الأول والأخير في المسؤول نفسه، فهو إما يكون "سيفا" للعدالة، رمزاً في الإدارة المثالية القائمة على نبذ الظلم وتعزيز الإنصاف، أو يكون للأسف سيفاً مسلطا على الرقاب لو أضاع البوصلة.

أمنيتي أن أرى كل مسؤول في بلدي "نموذجاً" في الإدارة الصحيحة النزيهة النظيفة، أن أراه مطوراً بانياً ناصحاً مدافعاً عن أبناء وطنه، أن أراه عادلاً، صعب المراس أمام من يريد التمصلح منه، همه الوطن وأبناء الوطن.

توجد نماذج مشرفة، وتوجد نماذج نتمنى أن ترجع للطريق الصحيح، وتوجد نماذج نتمنى ألا نراها مجدداً، ونرى بدلاء لهم يعملون لأجل البلد وأهلها.