تطرقنا في الجزء الأول من هذا المقال إلى أن الدول الكبرى سعت لصك مصطلحات سياسية عملت على تسويقها للعالم العربي عبر آليات إعلامية وسياسية ضخمة هدفت في النهاية إلى تحقيق مصالح هذه الدول مثل مصطلحات «الشرق الأوسط الجديد» و«الربيع العربي» و«الفوضي الخلاقة» وغيرها. ورأينا كيف تزامن مفهوم الشرق الأوسط الجديد في عهد الرئيس بوش الابن مع اختلالات هيكلية في بنية النظام الإقليمي، إذ قاد لحربين أمريكيتين كبيرتين الأولي في أفغانستان 2001 والثانية في العراق 2003، كان من نتيجة الحرب الأخيرة انهيار الدولة العراقية وإخراجها من معادلة القوي الإقليمية.

لم تكن «لعبة المصلحات» وتسويقها سياسياً بالأمر الجديد فقد استخدم الغرب تاريخياً ذات المصطلح وهو «الربيع» مع عدوه اللدود الاتحاد السوفيتي في الخمسينيات والستينيات، إذا أطلقت أمريكا والغرب على ثورة المجر ضد الاتحاد السوفيتي عام 1956 اسم «ربيع بودابست»، وأطلقت على ثوره تشيكوسلوفاكيا مطلع عام 1968 اسم «ربيع براغ «، وكانت الثورتان ربيعاً بالنسبة لأمريكا والغرب وخريفاً به رياح عاتية مدمرة وأتربة سياسية بالنسبة لعدوهما الاتحاد السوفيتي، وكان الهدف هو إضعافه وشغله بصراعات سياسية مع معسكره الشرقي، أملاً في انهياره وهو ما حدث بالفعل في عام 1990 في حقبة الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف حتى تنفرد أمريكا بقيادة العالم عبر سياسة القطب الواحد بدلاً من القطبية الثنائية، التي سادت خلال الحرب الباردة.

وجاءت سياسات الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وخطابه الشهير في جامعة القاهرة في 4 يونيو 2009 ليعزز التوجه نفسه متحدثاً عن ضرورة التغيير والتحول في المنطقة العربية وداعياً للديمقراطية وحقوق الإنسان ومبشراً بالرخاء والرفاهية، إلا أن العالم العربي سرعان ما اكتشف أنه كان خطاباً براقا في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب، حيث أعقبه أحداث ما سمي بـ«الربيع العربي»، ذلك المصطلح الذي أنتج أيضاً غربياً وصدر بالطريقة نفسها كما صدر مصطلح الشرق الأوسط الجديد، وتم تسويقه سياسياً وإعلامياً بهدف الخداع والتضليل. فالمعني القاموسي يشير إلى أن الربيع يعني زمن الورود والخصوبة والغيث، حيث يحمل الخير والنماء لبني البشر، بينما كشف الواقع السياسي معان عكس كل ما ورد في القاموس من معان وعكس ما بشر به منظروا الغرب من إيجابيات مع هذه الأحداث.

فقد تم استدعاء مصطلح «الربيع العربي» من المخزن التاريخي مع تعديله في الشكل والمحتوى حتى يناسب الحالة التي ينفذ فيها وهي الحالة العربية، وحتى يتناسب أيضاً مع الأهداف المعاصرة التي تتنوع فيه آليات التنفيذ، لاسيما في ظل الثورة التكنولوجية والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والمنظمات الحقوقية التي عرفت باسم منظمات المجتمع المدني كعوامل مساعدة لتحقيق الأهداف ذاتها، وفي الحالة العربية لم تكتفي امريكا بـ «الربيع»، ووروده لعاصمة من عواصمه، كما فعلت في الخمسينيات والستينيات مع بلدان المعسكر الشرقي، إنما أرادت أن تكون الأتربة والرياح والكوارث بالجملة لعموم المنطقة، وهذا ما جعل «هنري كيسنجر» وزير الخارجية الأمريكي الأسبق يقول «لقد اختفت أنظمة تحكم أكثر من مائة مليون عربي وأصبحت خريطة الشرق الأوسط اليوم بها العديد من الثقوب في انتظار كيف ومن سيملؤها».

إن الفشل الذي أصاب ما سمي بـ«الربيع العربي» جعل كثيراً من القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة في عهد «أوباما» تخلع القناع في كثير من الأوقات، وتكشف الحقيقة التي تمثلت دفاعها ومساعدتها لبعض جماعات الإسلام السياسي وبعض ما اسمتهم بالنشطاء والمنظمات الحقوقية، وممن لا وزن لهم سياسياً في مجتمعاتهم، وغيرهم ممن كانت تعول عليهم كثيراً في تنفيذ مخططها بالتوازي مع المزيد من الضغط على الأنظمة الوطنية الشرعية مرة تحث شعار حقوق الإنسان وأخرى بمنع المعونات الاقتصادية والضغوط السياسية وإيقاف توريد صفقات الأسلحة العسكرية.

المهم أن الربيع العربي قد فشل ونجيت دولنا مما حاكت لها هذه القوي من مؤامرات، وتحول الربيع لخريف للدول التي صدرته للعالم العربي إذ بدأت مؤسساتها السياسية تحاسبها وتعيد النظر في علاقاتها وتتجه مرة ثانية صوب الأنظمة الشرعية الوطنية في الدول العربية، ولكن التأثيرات السياسية والاقتصادية لهذه الأحداث كانت خطيرة على المنطقة إلا أن الجهود الوطنية لمواجهتها كانت حاضرة. وهذا ما تتعرض له هذه المقالة في جزئها الثالث والأخير.. وللحديث بقية.

* أستاذ الإعلام وعلوم الاتصال