في حضرة الألم أتأدب بالصمت، وأتوجع بالشكر، ولسان حالي يردد قول القائل: «وأصمت حين تؤلمني جراحي، وأقسى من أنين الجرح صمت. كتمت البوح حتى صرت وحدي، وعند الله حين خلوت بحت».

ولكنَّ كثيراً من الناس في هذا الزمان يستغربون أن يكتم الإنسان ألمه، ويحفظ كبرياءه، فيخفي ما يتعرض له من نكبات الزمان وأرزائه، البعض يسعى لتصوير نفسه مستلقياً على سرير المرض وهو موصل بأنابيب المحاليل ومغطى بقطع القطن ولسان حاله يجأر مستغيثا: ها أنا ذا.. فأين أنتم ؟! والبعض يبادر إلى نشر تفاصيل مرضه على الملأ كأنها قضية رأي عام؟!

لا أفهم لماذا يفعل البعض ذلك في حالات المرض أو غيره؟! وهي حالات تستوجب الستر وليس النشر؟! هل هو نشر للتوجع واستدرار للشفقة والعطف؟ أم أنه جنون الشهرة الذي يدفع الناس لتصوير وبث كل شيء، وفي أي وقت، وانتظار -الإعجاب- حتى لو كان على -صحن- من طعام؟! كما إن البعض تجاوز نفسه إلى غيره فأمسى يعد التلصص على شؤون العباد وحياتهم العامة والخاصة - صيداً- للكاميرا لا ينبغي كتمانه، مستعيناً بتكنولوجيا متلصصة لم تدع أمراً هاماً أو تافهاً إلا أذاعته!! رأيت حسابات كثيرة ليس فيها إلا صور لأناس في أحوال عجيبة كتناول الطعام والشراب والمرض والنوم والمطبخ وأوضاع خطرة -خاصة جداً- وتمجها المروءة، ويأباها الذوق، بل تزيد الدهشة حين يكون من هؤلاء من يحسب على فئة «المتعلمين أو المثقفين»!

ما الذي يجري؟ وما دلالة هذا نفسياً واجتماعياً ؟ هل الأمر بحاجة إلى دراسات نفسية وتربوية واجتماعية باعتبارها ظواهر تعكس جانباً من مخرجات المجتمع، كما يمكن لنا أن نستخرج منها طرقاً ووسائل نرتقي بها بالذوق العام وتطور المجتمع الذي بدا يتشكل عبر صور جديدة من التلقي والتعبير لم تكن موجودة من قبل!

في دراسة نفسية حديثة أجريت على 800 شخص تراوحت أعمارهم من 18 إلى 40 عاماً أشارت إلى أن كثرة التقاط الصور وبثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي من دون تقييم لمضمونها ومدى أهميتها يعد مؤشراً للاضطراب النفسي، ووفقاً لموقع «هيلث داي»، الطبي الأمريكى، فإن الدراسة التي قادتها جيسى فوكس بجامعة ولاية أوهايو الأمريكية، كشفت ارتباط هذا النوع من سلوك التصوير، بما يعرف في علم النفس بالنرجسية والاهتمام الزائد بالذات وأن الأشخاص الذين يرتبطون بتصوير «السيلفى» مثلاً وقضاء وقت طويل في تعديل الصور ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي يركز اهتمامهم على ذاتهم بشكل أكبر، ويعتقدون أنهم أكثر ذكاءً وجاذبية وأفضل من الآخرين، بالإضافة إلى وجود مشاكل في الشعور بالأمان، ولديهم جزء من السلوك المتهور وعدم التعاطف ومراعاة الآخرين، بالإضافة إلى بعض سمات معاداة المجتمع، والميل إلى تضخيم الذات.

ربما يكون انتشار هذا السلوك لدرجة الشيوع بين الناس في عصر من أسمائه «عصر الصورة»، جعل الأمر عادياً لا يثير الاستغراب، ولكن الأمر حال إدمانه يتنافى مع السواء النفسي والمروءة الاجتماعية التي تحفظ لكل مواطن حقه في أن يكون نشر صورته حقاً خالصاً له لا يبتذله ولا يدع غيره يسطو عليه بأي تبرير خاصة مع تلك الموجة التي تدفع بها وسائل التواصل الجديدة من دون ضوابط، فخصوصية حياة كل شخص حق مقدس ولا ينبغي أن تكون مستباحة على النحو الذي نراه في هذا العصر.