يظل صعود اليمين المتطرف والاتجاهات الشعبوية تحدياً عالمياً ليس على المستوى السياسي فحسب ولكن على المستوى الأيديولوجي والفكري، وإن مرونة الأنظمة الغربية «العلمانية» واستيعابها هذه الحركات -أحزاباً وأفكاراً ومؤسسات- يمثل ثغرة خطيرة في تلك النظم الغربية، حيث يعد ذلك باباً مشرعاً لكل متطرف أو مهووس بالعنف كي يغلف دعاواه الوحشية بتبريرات الديمقراطية ليكون حصيلة ذلك أعمال إرهابية كما شاهدنا في الفترة الأخيرة!!

البرنامج الوثائقي «السلطة والتقوى» الذي بثته إحدى المحطات الأجنبية الناطقة بالعربية مؤخراً كشف معلومات كثيرة وهامة عن مقدار الخطر الذي تمثله الحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وخطورة انتماء رؤساء وأعضاء أحزاب سياسية وإعلاميين ورجال أعمال لمثل هذه الحركات المتشددة التي لا تتورع عن ارتكاب أعمال العنف لتنفيذ أفكارها الجامدة.

في رحلة قام بها الصحفي مبين آذار عبر الولايات الأمريكية جرى توثيقها في هذا البرنامج نكتشف -مثلاً- حركة «ريد اوت Red out» التي أسسها «جيمس رولز» ضابط المخابرات السابق وهي حركة دينية مسيحية متطرفة تؤمن -بتعصب- بجملة من المبادئ التي تسعى إلى تطبيقها -ولو بالقوة- ومن ذلك:

* إن أمريكا -منذ تأسيسها- كانت وينبغي أن تظل دولة إنجيلية مسيحية خالصة.

* وإن نهاية العالم قد اقتربت.

* وإن حرباً نووية وشيكة تلوح في الأفق.

* وإن على الأمريكيين أن يفعلوا أي شيء استعداداً لهذه الموقعة التي قال عنها الرب في كتابه!

* وإن يسوع على وشك العودة مرة أخرى إلى هذه الدنيا، وإن مشيئته تقتضي نشوب «حرب نهاية العالم.

* عدم التسامح مع التنوع أو التعدد في المجتمع ونبذ الأديان الأخرى وخاصة الإسلام والأجناس الملونة الأخرى.

* إقرار الأفضلية للجنس الأبيض.

* تفسير خلق الكون طبقاً لما ورد في سفر التكوين، ورفض أي نظرية علمية تتناقض مع ذلك وخاصة الأطروحات القائمة علي نظرية التطور!

تضمن البرنامج أيضاً مجموعة من الوثائق الهامة التي تلقي الضوء على النشأة الأولى للمجتمع الأمريكي من الداخل حيث رجع بالتاريخ إلى عام 1630، حيث نشأت أمريكا على يد مجموعة من البريطانيين الإنجيليين المتشددين الذين كانوا يؤمنون بأوان البعث المسيحي، وعدم فصل الدين عن الدولة، مع الإيمان بصلف بتفوق العرق الأبيض على الأجناس الأخرى، وظل هؤلاء عبر مراحل تطور المجتمع الأمريكي يحملون أفكار اليمين المتطرف برغم علمانية مؤسسات الدولة واستقرار دستورها العلماني الذي لا يشير إلى الدين في أي من بنوده.

لقد عرض البرنامج ما يخشاه الكثيرون من ممارسات هؤلاء الإنجيليين والصهاينة، فمنهم من بدأ بحمل السلاح تحت مسمى «الميليشيا الشعبية» ومنهم من نفذ كثيراً من أعمال القتل والكراهية، ومنهم من كان ولايزال يدعم الكيان المحتل في فلسطين بدرجة عالية من التطرف والتأييد المطلق للكيان الصهيوني، استناداً لمقولات بالية تزعم أن إقامة دولة يهودية في فلسطين هي نبوءة إنجيلية! ولذلك وجدنا كثيراً من هؤلاء عرقلوا مشروعات الدعم للحقوق الفلسطينية داخل الكونغرس والإدارات الأخرى!

إن هؤلاء زعموا أنهم يريدون استرداد أمريكا وتطهيرها من الأجانب والطوائف والأديان الأخرى رافضين مبدأ التنوع والتعدد الاجتماعي ويطلقون على هؤلاء مسمى «مجتمعات المصالح الخاصة» متهمين هذه الشرائح بالحصول على حقوق ليست لهم عبر جماعات الضغط والمصالح غير المشروعة على حساب الأغلبية البيضاء، على حد زعمهم!

كثير من هؤلاء ترك حياة المدن وذهبوا إلى الغابات ومغارات الجبال وأعدوا أنفسهم لمواجهة حرب كبيرة ينزل فيها المسيح الدجال، ويرون في ولاية «ترامب» عصراً ذهبياً لازدهار أفكارهم وقوة جماعاتهم.

والتساؤل هو: كيف لأكبر دولة علمانية لديها كل هذا الزخم من التعصب بل وانتشار التيارات المتطرفة التي تتناقض مع المبادئ التي يقوم عليها النظام العلماني؟

يقول الباحث جيمس مورون، «لقد تأصلت هذه «الازدواجية» في النظام الأمريكي السياسي والاجتماعي حيث يظهر ذلك جلياً في مواقف كثيرة لمسؤولي الإدارة الأمريكية وخاصة أعضاء الكونغرس من المحافظين، وكذلك اقتباسات الرؤساء الأمريكيين في نصوص خطاباتهم، وما نقش من عبارات دينية على عملتهم وغيرها من ملامح دينية! ويقول مورون إنه «قد قيض للولايات المتحدة الأمريكية حال إنشائها مفكرون استطاعوا أن يقيموا مؤسسات علمانية ودستوراً علمانياً ليس للدين فيه موضع، ولكنهم في الوقت نفسه تركوا حرية الاعتقاد مفتوحة للأفراد فظل الباب مفتوحاً للدين كي يصبغ حال المجتمع طبقاً للمتغيرات والظروف التي مرت بها أمريكا وخاصة في نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحالي»!