إن من ضرورات رقى الأمم تطور تشريعاتها لأن التشريع من أهم السبل التي تدعم تنفيذ الخطة التي ترسمها استراتيجية الدولة، ولما كانت خطة الأمة الإسلامية خطة وشرعة سماوية، فلم يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وحينما التزمت الأمة بهذه الشريعة سادت وحكمت وزانت الأرض بإبداعاتها، بل إن شئت قلت أقلت البشرية من شهواتها وبلغت بها مبلغاً أقل ما يكتب فيه بأنها علمت العالم كيف يكون الإنسان جديراً بخلافة الله في أرضه.
ومن أبرز ما أقرته الشريعة الغراء هو مبدأ التكافل بين أفراد المجتمع بعضهم البعض، ففرضت الزكاة وحثت على الصدقات وأرست فكرة الوقف الذي كان أحد أهم مقومات قيام الدولة الإسلامية عند نشأتها وأحد روافد دعمها عند نوازلها «وإن شئت فارجع إلى كيف مولت الأمة الجيوش الإسلامية في الحروب الصليبية والهجمة التتارية»، وسيكون الوقف في المستقبل القريب رائد نهضة هذه الأمة وسبباً من أسباب انطلاقتها القادمة، ما يحتم على الأمة جمعاء العمل وبكل جهد وبلا كلل ولا ملل حتى نحيي فكرة الوقف ونضعه في موضعه الذي شرع من أجله، وهذا الأمر يتطلب من أهل الفقه وأهل القانون والساسة بذل ما في طاقتهم لإخراج مفاهيم وأغراض الوقف الحقيقية في ثوب يتناسب مع العصر الحديث وكلنا ثقة في أنه أي «الوقف» سيكون أحد أهم أعمدة النهضة القادمة بإذن الله وليست هذه الثقة من فراغ. فالقارئ لتاريخ الوقف والمدقق في مردوده سيتأكد من ذلك، وما يشجع على طرق باب إحياء الوقف وتطويره ما وصلت إليه بعض البلدان الإسلامية الحديثة بعد إحيائها لفكرة الوقف وعملت على سن التشريعات الحديثة له مثل ماليزيا وتركيا والكويت وقطر، هذه البلدان وصلت مع الوقف إلى حد ساهم فيه مع مؤسسة الدولة في رفع الكثير من متطلبات الحياة اليومية والحياتية لفئات كثيرة من مجتمعاتها.
ولكن لا نستطيع أن نغفل صعوبة هذا العمل من الناحية الفنية التشريعية كونها تتطلب مواجهة عملية حقيقية لإشكالية تقنين الأبواب الفقهية، الأمر الذي يضعنا أمام فرضية البحث عن التجارب المماثلة ومحاولة تبسيطها وتبني ما بها من إيجابيات وطرح ما شابها من سلبيات.
وهذا ما سنحاول الولوج فيه من خلال عدد من المقالات سنتناولها تباعاً حتى نبسط فكرة قانون متطور للوقف نستطيع من خلاله ثبر أغوار هذه الكنوز الدفينة والمعطلة بسبب القصور التشريعي الذي نعاني منه.
* مستشار قانوني بإدارة الأوقاف السنية