يتردد هذه الأيام في بغداد السيناريو الأكثر احتمالاً وهو قيام تحرك سياسي للقفز على السلطة وإزاحة حيدر العبادي، يقوده ويديره الجنرال قاسم سليماني مسؤول الملف العراقي في طهران يعاونه مسؤول ميليشيا بدر، هادي العامري، ومعاونه في الحشد الشعبي مهدي المهندس، وسبق أن أشرنا في مقالتنا بتاريخ 25 أغسطس 2015 إلى احتمال حصول هذا السيناريو الذي سيغيّر، في حالة تحققه، المعادلة السياسية في العراق بصورة كلية.
هذا السيناريو لم يتبلور من فراغ، حيث ظهرت إشارات إيرانية قوية، خلال الستة شهور الماضية ومن قبل خامئني، مفادها السماح للجنرال قاسم سليماني قائد الحرس الثوري بالظهور الإعلامي المكثف داخل العراق على وقع المعارك ضد تنظيم «داعش» خصوصاً في مناطق تكريت وأمرلي، رغم ما يقال عن تحفظ المرجع السيستاني، وتسريب خبر دخوله من دون استئذان لاجتماع التحالف الشيعي قبل شهر في بغداد، وما روي عن مشادة كلامية بينه وبين العبادي، وقد يكون التسريب مقصوداً.
وصاحب هذا المناخ الإعلامي المدروس إشادة مضخّمة بقدرات الجنرال سليماني من قبل هادي العامري الذي صاحبه خلال فترة الحرب الإيرانية ضد العراق «1980 – 1988» حيث عقّب على شخصيته بالقول «لولا قاسم سليماني لكانت حكومة حيدر العبادي في المنفى، ولما كان هناك وجود للعراق»، كما تنادى للإشادة المضخمة مدفوعة الثمن، بعض السياسيين العراقيين الفاشلين من «الطائفيين السنة» والمنقلبين على طائفتهم، وكانوا من أكثر أعداء الحرس الثوري الإيراني خلال الحرب العراقية الإيرانية، ولكي تستكمل صورة صناعة «الإمبراطور الجديد» يعقّب سليماني على الوضع بقوله «إيرانات جديدة ستظهر في المنطقة ومنها البحرين، وستكون مصر إيرانية شاؤوا أم أبوا.. وبلادنا حاضرة في لبنان والعراق».
ولا يمكن عزل ذلك عن تصريحات الجنرالات الأمريكان في استكمال المشهد المقصود، حيث نقل عن الجنرال ديفيد بترايوس القائد السابق للقوات الأمريكية في مقابلة له مع صحيفة «واشنطن بوست» ووصفه سليماني «بأنه رجل متمكن للغاية وجدير بالاحترام» وأنه في عام 2008 قابله مسؤول عراقي حمل رسالة من سليماني إليه وأسمعه الرسالة القائلة «الجنرال بترايوس، يتعين إحاطتكم علماً بأنني أنا، قاسم سليماني، المحرك الفعلي للسياسة الإيرانية حيال العراق، وسوريا، ولبنان، وغزة، وأفغانستان»، وكما يعرف في صناعة الإعلام للبطل، فإن الإعلام الإيراني الموجه للعراق والمنطقة وما يردده الإعلام العراقي لا يريد جعل قاسمي سليماني «رئيساً للعراق» فهو إيراني وقائد في بلده، إلا أن الرسالة المقصودة هي لترسيخ قناعات محلية عراقية، بتشتيت الذهن العراقي وتحويله إلى «صورة المنقذ»، وهي عملية في غاية الأهمية في علم الاجتماع السياسي والإعلامي، خصوصاً أن العراقيين يعيشون حالة مهلكة من الإعياء والتعب، ولكي تمرر هذه القناعات لدى عموم الناس بأن صانع حاكم العراق المقبل هو «سليماني» وبالتالي «ولي الفقيه خامئني»، ومما يساعد على ترسيخ قبول مثل هذا السيناريو هو الحالة العراقية الحالية، فالمعطيات السياسية معقدة وتسوء يوماً بعد آخر، خصوصاً بعد انفجار الشارع العراقي في محافظات الوسط والجنوب، وهذا يعني ضياع الجمهور الشيعي من أيدي الأحزاب الحاكمة «الشيعية» ولم يتمكن العبادي، ابن حزب الدعوة، من إنقاذ ما يمكن إنقاذه وقد أعطته «المرجعية الشيعية» هذه الفرصة وكذلك الجمهور المنتفض ما عدا الأحزاب ذاتها وبينها حزبه، ولأصبح قائداً وطنياً عراقياً فذاً لكنه لا يتمكن من المقاومة في ضوء معطيات لوجيستية صنعها مسؤوله المالكي لسنوات.
لقد حصل الفراق والخصام ما بين الأحزاب الحاكمة والجمهور. ولو حصلت اليوم انتخابات مبكرة لكشفت هذه الحقيقة المريرة في وجه تلك الأحزاب، لكن السفير الأمريكي لدى العراق ستيوارت جونز طمأن تلك الأحزاب قبل عدة أيام في تصريحات له بأن الولايات المتحدة ترغب بحصول الانتخابات في موعدها.
ولكن هل يمكن لمثل هذا السيناريو أن يتحقق، أي انقلاب القوى الميليشياوية المنضوية تحت الحشد الشعبي على القيادات الدينية التقليدية والسيطرة على الحكم؟
لا يمكن للوضع السياسي في البلد الاستمرار على هذا الإيقاع من الفشل والفساد واحتلال ثلث الأرض، ويبدو أن هناك محاولات جادة لتعطيل مفاعيل المظاهرات بعد فشل العبادي في استيعابها وتحقيق مطالبها، مثلما فعل سابقه المالكي عام 2012 تجاه اعتصامات الأنبار، رغم أن أسلوب العبادي فيه بعض المرونة الخطابية لكن النتيجة واحدة. كما إن موقف المرجعية الشيعية التي يذعن لها حكام البلد هذا اليوم يبدو محيّراً، حيث تحول خطابها نحو قضايا عامة «كقضايا القطاع الخاص» أو غيرها، ولم تعد بذات الحماسة بعد يقين مجلسها أو مستشاريها بأن الاستجابة للتظاهرات ستعني تحولاً سياسياً مهماً باتجاه التخلي عن الطائفية والمذهبية نحو دولة المواطنة؟
من هنا فإن الخروج من هذا الواقع لا تحله مقترحات إحالة رئاسة الوزراء لشخص غير العبادي ومن داخل البيت الشيعي مثلما اقترح إياد علاوي أخيراً. الحل هو حتمية تغيير بنية النظام القائم نحو سيناريوهين: إما قيام حكم لا طائفي ليبرالي وبدعم أمريكي، وهو أمر ليس صعباً على المستوى المحلي مع تبلور التيار المدني الشعبي الحالي من خلال المظاهرات وبروز قيادات شابة وناضجة ومحبة للوطن، لا يستطيع الخصوم من الأحزاب الطائفية توجيه سهام التشكيك نحوها، فلا هي سنية ولا هي بعثية أو داعشية، هي نخب من شباب العراق المقموعين والمحرومين هم وعوائلهم من أبسط مقومات الحياة، تدعمهم النخب الوطنية التي لم تتلوث أيديها في خدمة الاحتلال الأمريكي والفساد المالي والإداري. لكن هذا السيناريو لا تدعمه الإدارة الأمريكية الأوباماوية بسبب ما تعيشه من إحباط على المستوى الاستراتيجي في السياسة الخارجية، وشعورها بالاستسلام للهيمنة الإيرانية في العراق. كما إنه يواجه مقاومة قوية، وقد تكون مسلحة، من قبل مافيات الفساد وقيادات الأحزاب الدينية.
السيناريو الثاني، وهو المتحرك والمتوقع حالياً، هو قيام حكم ميليشياوي بدعم إيراني وهناك استعدادات لوجيستية يديرها الجنرال سليماني مباشرة بدعم قوي من نوري المالكي الذي يمتلك مفاتيح أمنية وسياسية مازالت فاعلة، وبمساندة من بعض العرب السنة المنافقين فيما بعد النجاح.
* نقلاً عن صحيفة «العرب» اللندنية