أكثر التعبيرات الاجتماعية والثقافية التي تصف وقائعنا العربية تداولاً هي: «نحن في فتنة»، «إنها فوضى»، «لا أحد يستطيع فهم حقيقة ما يحدث»، «الأمور غامضة وعصية على التفسير». وهذه التعبيرات يمكن وصفها بأنها تفسير اللا تفسير.

أو الركون إلى المجهول، وهي جزء من التركيبة الميتافيزيقية المولعة بها الشعوب الشرقية في تفسير ظواهرها. كما أنها تنم إما عن جهل في آليات تفسير الوقائع، أو عن خوف من مواجهة الواقع.

إحدى المشكلات التي تؤسس لأزمات الوطن العربي هي مشكلة دور المثقف التنويري المنقوص ذاتياً، والمنتقص بفعل العوامل الخارجية.

فأغلب مثقفينا، إلا قليلاً جداً منهم، يسايرون الرأي العام ويتبعون الصوت العالي بدلاً من أن ينبئوا عن الموجات الكاسحة ويغيروا اتجاه حركتها.

ولا يجوز التغافل عن دور السلطات الاجتماعية والسياسية الدينية التي تستقوي على المثقف بأدواتها المتجذرة في الطبقات الاجتماعية المختلفة، والتي تشكل حائط صد أمام أي رأي يخالف المخيال الاجتماعي.

ولكن ثمة قصوراً واضحاً في وعي المثقف نفسه، وفي مصادر معارفه، وفي قناعاته التي يعبر عنها.

وهو الأمر المقلق بشأن مستقبل وعي الأمة وأمنها الثقافي.

والأمر على عكس ذلك في الغرب. فليس ثمة ظواهر غريبة ووقائع عصية على التفسير.

فمثقفوهم يصدرون أكثر من دراسة وبحث لتفسير التغيرات السياسية والاقتصادية، ويعقدون عشرات الحلقات والندوات لتداول المشكلات الجديدة ومناقشة آفاقها وأبعادها. فعلى سبيل المثال يستطيع المتابع أن يعثر على عشرات الدراسات التي تفسر فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برغم الرفض الجماهيري «الظاهري» له.

وسوف يذهل المراقب من تنوع تلك الدراسات التي تناولت المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية التي حركت أقليات معينة كانت محجمة سنوات طويلة عن الانخراط في التصويت للانتخابات، ولكنها انجذبت وتفاعلت مع خطاب ترامب الذي هو «مُنتج» أصيل لتلك البيئات لتمنحه فوزاً بدا غريباً لمن لم يطلع على تلك التفاصيل.

والأمر نفسه يمكن متابعته في القراءات السياسية الغربية لمستقبل الانتخابات الفرنسية 2017.

إنها تناقش عشرات القضايا المحلية والدولية من بينها المواقف الشعبية الفرنسية من قضية المهاجرين وقضية الهوية الأوروبية الجديدة في مقابل الهوية الفرنسية العريقة وتربطها ببرامج المرشحين للانتخابات وسيرهم الذاتية والسياسية.

بالتالي فإن فوز أحدهم لن يكون مفاجأة لأن حظوظه ستكون قد درست بالتفصيل عبر عشرات الدراسات والمناقشات.

وكل هذه المنهجيات لا أثر لها في الوطن العربي.

فنحن صرنا نعرف المرشحين للانتخابات الغربية وتفاصيل قضايا دولهم أكثر مما نعرف عن دولنا.

وهذا تفسير منطقي للمطبات الكثيرة التي نقع فيها، ولتكرار الأخطاء التي لا نخرج منها!!

ولقد اعتدنا في سياقاتنا الثقافية على المثقف «الضد» أو «المع» عند مناقشة قضايانا السياسية أو الاجتماعية.

وعلى الرغم من ضحالة الإنتاج النوعي لهذا الشرخ الحدي في المواقف إلا أنه كان يحمل بعض القيم المضافة للمتابع العربي.

ولكن في خضم الفوضى العربية الجديدة برز لنا تيار جديد من المثقفين الرماديين.

أولئك القادرون على القفز من ضفة إلى ضفة بمنتهى الرشاقة والتنقل من موقف إلى آخر بكل خفة.

أولئك لديهم مواهب فذة في مساواة جميع الأطراف في الصواب، وفي الوقت نفسه، لديهم قدرات استثنائية في توزيع الخطايا على الجميع بإنصاف. بالتالي يخرج القارئ أو المتابع العربي من براثين كتاباتهم ونقاشاتهم خالياً من أي موقف وفارغاً من أي تفسيرات وتبريرات.

ويبدو أن تيار المثقفين الرماديين هو تيار موظف لتعميق الغموض، ونشر الشعور بالضعف العقلي والشخصي والعجز عن الفهم.

كل ذلك من أجل تشتيت التفكير في القضايا الجوهرية وتمويه البحث عن التفسيرات الواقعية وإبقاء الحال في إطار فتنة لا تفسير لها.

إنهم كما يبدو بعض أدوات الفوضى الجديدة.

يعلمنا التاريخ أن حركات التحول الصحيحة والمؤثرة في مستقبل الأمم قادها رموز الفكر والثقافة الذين كانوا مؤثرين على حركة المجتمع وعلى صنع السياسات والتوجهات والأفكار. ويعلمنا أن حركة الشارع لم تشرعن إلا للفوضى. وأصوات المدافع والطيارات لم تخلف إلا الألم والثارات المتواترة. كما يعلمنا التاريخ أن المناطق الرمادية هي مناطق الظل والرطوبة والهشاشة التي لا تنتج حياة مشرقة.