يأتي الإعلان الرسمي عن تدشين "مركز الملك حمد العالمي للحوار بين الأديان والتعايش السلمي" في مدينة "لوس أنجلوس" الأمريكية، الخميس، ليؤكد حقيقة جوهرية مهمة، وهي قناعة القيادة الرشيدة المطلقة بضرورة أن تظل البحرين مركزاً عالمياً للتعايش والسلام والتحاور بين أتباع الديانات والثقافات والحضارات المختلفة باعتبار ذلك الوسيلة المثلى للحد من الصراعات وإزالة مسببات العنف ووأد بواعث التطرف في مهدها.

وحظي الاحتفال باهتمام وسائل الإعلام المختلفة، وذلك بالنظر إلى ما تقوم به البحرين من دور فاعل في تعزيز آليات وأدوات التواصل بين الشعوب، إذ يشار لها باعتبارها من الرائدات التي أرست دعائم التعايش السلمي بين البشر، وكان لها أياديها البيضاء في مسار تطور هذه الحركة العالمية على خلفية مؤتمر استضافته في مايو 2014 للحوار بين الحضارات، ورعايتها لكرسي جلالة الملك حمد للتعايش السلمي في جامعة "سابينزا" الإيطالية الذي تم تدشينه في نوفمبر 2016، وغير ذلك الكثير.

وشهدت الفعالية التي أقامتها جمعية "هذه هي البحرين" حضوراً لافتاً من المهتمين ليس فقط لأنها أقيمت في مدينة أمريكية مشهورة تسلط دائماً وسائل الإعلام أضواءها عليها، وإنما لأن الفعالية شهدت أيضاً معرضاً ومؤتمراً صحفياً لإطلاق "إعلان البحرين" الذي عد بمثابة رسالة بحرينية للعالم أجمع بأنها كانت وستظل أنموذج للتعايش والتسامح، وأنها ستواصل ما شرعت فيه منذ القدم لتكون بؤرة ضوء تجسد حقيقة التآلف بين الناس بمكوناتهم المختلفة.


واقع الأمر، أن هذا التحرك البحريني ترجع أهميته لأكثر من سبب، فإضافة إلى الحاجة لقوى وأطراف ومؤسسات تعنى بالأدوار التي تتطلبها تعميق فكرة التحاور بين مختلف أفراد البشرية، خاصة في ظل تصاعد مؤشرات التوتر والعنف التي تسود العالم، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، فإن هناك ضرورة أيضاً لإبراز صورة البحرين الحضارية ومكانتها، والتي تكرست لها على مدار التاريخ، باعتبارها بوتقة انصهرت فيها الثقافات كافة، وامتزجت فيها كل عناصر الشعوب.

ويشار هنا إلى عدد من الدلائل التي تزيد من ثقل إنشاء مركز باسم العاهل المفدى للحوار بين الأديان سواء بالنسبة للبحرين أو العالم، وكيف يمكن أن يسهم وجوده في رسم وصياغة مستقبل مسار الحركة الدولية للتحاور بين أصحاب الديانات والثقافات والحضارات وملامحها الرئيسية.

فمن ناحية، تبرز حقيقة رعاية العاهل المفدى للفعالية، وتفويض نجله الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة ممثل جلالة الملك للأعمال الخيرية وشؤون الشباب رئيس مجلس أمناء المؤسسة الخيرية الملكية لافتتاح هذا الحدث الضخم بالنيابة عن جلالته.

ولهذه الرعاية السامية دلالاتها التي لا تخفى على أحد، إذ إن توجيهات العاهل المفدى، والتي جاءت في مناسبات مختلفة، إزاء قضية التحاور بين أصحاب الثقافات والأديان المختلفة، تمثل في ذاتها مبدأ من مبادئ سياسة المملكة الخارجية، ومقوماً أساسياً لعلاقاتها بالمجتمع الدولي.

كما تبرز مبادرات جلالته الكريمة والمتعددة في هذا السياق، التي بدأت منذ نحو عقدين تقريباً، وانطلقت مع دعم المملكة لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتسمية عام 2001 سنة للحوار بين الحضارات، واعتماد برنامج عالمي للحوار بين الحضارات في العام ذاته، وهو العام الذي أبدت فيه المملكة أيضاً استعدادها لاستضافة أمانة عامة لحوار الأديان والثقافات بحيث يكون مقرها البحرين.

وكان عاهل البلاد قد اقترح في هذا العام المذكور أن يتم تبني إعلان عالمي من قبل الأمم المتحدة يتضمن دور الأديان في إرساء السلام والعدالة والحرية في العالم، وهو مقترح استهدف دعم قضية التحاور والتسامح والتعايش بين أصحاب العقائد المختلفة، وقدم وسط مشاركة كبيرة من عدد من رؤساء وممثلي الدول العربية والأجنبية.

هذا بالإضافة إلى مبادرة عاهل البلاد الكريمة بخصوص التبرع بالأرض المنتظر إنشاء "مركز الملك حمد العالمي للحوار بين الأديان والتعايش السلمي" عليها، والتي يتوقع أن تضم متحفاً لعرض نماذج تاريخية وحديثة عن الحرية الدينية في البحرين ومظاهر التعايش السلمي بها.

من ناحية ثانية، تبرز أيضاً قضية المشاركة الواسعة في الفعالية التي شهدتها المدينة الأمريكية الكبيرة، والتي عكست هي الأخرى الاهتمام العالمي بالتحرك والدور البحريني، حيث لوحظ حضور ممثلين من البيت الأبيض والأمم المتحدة، فضلاً عن عدد من الزعماء الدينيين وكبار الضيوف من الشخصيات الإعلامية والسياسية والاجتماعية سواء في داخل الولايات المتحدة أو خارجها.

ولا شك أن هذه الكوكبة من الحضور تعبر عن الثقة التي باتت توليها الدوائر المختلفة لقدرة القيادة الرشيدة على لم شمل زعماء العالم، السياسيين منهم والروحانيين وغيرهم، وتجسد نجاح البحرين كمركز للجذب والاستقطاب، وملتقى تتلاقى فيه الأفكار والرؤى والاتجاهات، ومنبرا يعكس نموذجها في التسامح، ويبرز رسالتها الحضارية في ضرورة التعايش بين الناس بمختلف أطيافهم وألوانهم، خاصة أن الحدث شهد بالفعل معرضا لمساهمات المجتمعات الدينية المختلفة المتعايشة في المملكة، والتي توضح الحرية الدينية المتميزة بها.

وأضفت فعاليات حفل تدشين "مركز حمد العالمي للحوار بين الأديان" مزيداً من الاهتمام، خاصة عقب زيارة الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة لمتحف التعايش ولقائه مع عدد من الطلبة الأمريكيين، ونوقشت خلاله العديد من الأفكار والرؤى بشأن دور الشباب وطموحاتهم المستقبلية في تحقيق التقارب الفكري ومد جسور التواصل مع الآخرين بهدف التحاور معهم وتقبلهم لفكرة التعايش فيما بينهم.

من ناحية ثالثة وأخيرة، تبرز الأهمية القصوى لتدشين "المركز" الجديد باعتباره امتداداً لتحركات المملكة المتواصلة من أجل استتباب السلم والأمن الدولي، وخطوة إضافية تنسب للبحرين وقادتها وشعبها باعتبارها من الدول السباقة في مجال دعم أطر التسامح وآليات الحوار بين الحضارات والثقافات والأديان والمذاهب المختلفة.

وكانت البحرين من أوائل الدول في المنطقة والعالم التي استضافت مؤتمرا للحوار الإسلامي المسيحي في أكتوبر عام 2002 تحت عنوان "دور الأديان في تحقيق التعايش السلمي للمجتمعات المعاصرة"، واستضافت مؤتمراً للتقريب بين المذاهب الإسلامية في سبتمبر عام 2003، وكذلك استضافت منتدى الفكر العربي الذي عقد تحت عنوان "الوسطية بين التنظير والتطبيق" في فبراير 2005.

ودعماً لهذه الخطوات، التي تعود لنحو عقدين من الزمان، واصلت المملكة القيام بدورها الرائد، واعتبرت من الدول الأولى التي وضعت الملامح الرئيسية لحركة التحاور بين الشعوب والحضارات وأتباع الديانات المختلفة.

ولا يمكن تجاهل جهود المملكة في استضافة وتنظيم "منتدى الحوار بين الحضارات" في يناير عام 2008، ومشاركة جلالة الملك في الاجتماع رفيع المستوى بالجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر من نفس العام بنيويورك بشأن دعم الحوار بين الأديان والثقافات، فضلا عن "مؤتمر حوار الحضارات" عام 2014.

ويعد هذان المؤتمران الأخيران بمثابة ركنين من أركان حركة تعزيز التفاهم بين الشعوب وبعضها، وهو ما يتوافق مع دعم البحرين وتقدير قيادتها الرشيدة لكل المبادرات الإقليمية والدولية التي تصب في نفس الاتجاه، خاصة مبادرة خادم الحرمين الشريفين لإنشاء مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية، وتدشين مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود للحوار بين أتباع الديانات والثقافات في فيينا، بالإضافة إلى مشاركة البحرين في أعمال المؤتمر الخامس لقادة الأديان الذي انعقد بمدينة أستانا بكازخستان في يونيو 2015، والصلاة الجماعية التي استضافتها المملكة بين علماء الأديان المختلفة وبيان رجال الدين الـ 20 في اجتماع "صيام من أجل السلام" الذي عقد بالمنامة في يونيو 2016، واستضافة اجتماع مجلس حكماء المسلمين الذي ترأسه شيخ الأزهر في سبتمبر 2016، وغير ذلك من مظاهر ريادة البحرين ودورها في قيادة تحركات دعم وتعزيز التحاور بين أتباع المذاهب والديانات والثقافات المختلفة.