يحكى أن مجموعة من الموظفين في قطاع ما، كانوا يستغربون حرمانهم من الترقيات التي تؤهلهم لشغل مناصب متقدمة، وحتى الحوافز ليس لهم فيها نصيب، رغم أنهم يتحملون العبء الأكبر من العمل، وهم من يصنع الإنجاز.

لكن في المقابل كان المسؤول عليهم، هو الذي يحصد الترقيات والحوافز، بل ويقفز من منصب إلى أعلى، رغم أنه لا يقوم بالعمل، بل لا يقوم بمهامه الإدارية والإشرافية على الوجه الأكمل.

كانت هناك «هوة سحيقة» بين الموظفين باختلاف مراتبهم، وبين المسؤول الأول، كان الأخير لا يعرف عن عملهم شيئاً، بل لا يعرف أسماءهم، لم ينزل يوماً ليزورهم في مكاتبهم ويطلع على أعمالهم، بل لم يجتمع بهم مرة، ولم يعقد جلسة ليستمع فيها إلى همومهم ومشاكلهم، أو أقلها اقتراحاتهم لتطوير العمل.

حلقة الوصل بينه وبينهم، كانت ممثلة في «مسؤولهم المباشر»، والذي كان واضحاً عليه حرصه الشديد على ألا يصعد أحد إلى «المصعد» ويتجه للطابق الذي يجلس فيه المسؤول الأول، كان مسؤولهم يقطع عليهم أية محاولات للحديث حتى مع المسؤول الأول، لو تصادف أنه كان يمشي ووقعت عيناه على أحد الموظفين.

بعد سنوات، مرت ظروق اجتماعية عصيبة على المسؤول الأول، انقلب حاله، وتبدلت نفسيته، كان يبحث عن الناس من حوله ليواسوه، ويستأنس بقربهم، فلم يجد سوى ذاك المسؤول الذي أعطاه الثقة ليدير القطاع والموظفين من حوله. مل من مشاهدته وحده والحديث معه وحده، إذ كان يعرف عن أحوال القطاع مما ينقله هذا المسؤول.

طلب من المسؤول الذي تحته أن يعقد اجتماعاً لجميع الموظفين ليجلس معهم ويستمع لهم، فرد عليه بأن هذا الأمر سيسبب بـ«إزعاج كبير» له، فالموظفون ليس لديهم سوى التذمر و«التحلطم». في رمضان طلب أن تقام «غبقة» لجميع الموظفين، فقال له المسؤول تحته بأن هذه المسألة «ستقلل» من هيبة الموظفين له، إن جلس معهم على طاولة واحدة، وعلى عشاء تسقط فيه الرسميات نوعاً ما.

دارت الأيام، وبدأ بعض الموظفين بالبحث عن وظائف أخرى في قطاعات معينة، وبالفعل قدم بعض منهم استقالاتهم وتركوا العمل. تراجع العمل، وقلت الإنتاجية، وكلما طلب المسؤول الأول التقارير المعتادة، جاءه المسؤول تحته بتقارير أقل جودة عن السابق، فاستغرب المسؤول الأول ذلك.

وفي يوم من الأيام، قام المسؤول الأول بإرسال المسؤول الذي تحته إلى مهمة عمل خارج البلاد، وتعمد أن يختار له بلداً بعيداً، وأن تكون لعدة أيام.

وحينما سافر المسؤول، خرج المسؤول الأول من مكتبه، ركب المصعد ونزل لطوابق الموظفين، وأخذ يسير وحده، وحينما رأوه هبوا له ليسلموا عليه، فطلب منهم الاجتماع كلهم بلا استثناء في قاعة الاجتماعات. في القاعة، أخذ يتعرف عليهم واحداً واحداً، سأل كل واحد عن اسمه، وعن وظيفته، وما يقوم به، واستغرب حينما قال أحدهم بأن القطاع كان فيه موظفون أكفاء ومجتهدون كان العمل يقوم عليهم، لكنهم غادروا واستقالوا بسبب الإحباط واليأس.

سألهم لماذا دب فيهم اليأس والإحباط، فأجابوه بأن الترقيات والحوافز كانت تذهب لمسؤولهم الذي كان يضع رجلاً على أخرى ولا يعمل شيئاً، هذا المسؤول الذي كان يمنع أي شخص كان من الوصول للمسؤول الأول، وكان يأخذ العمل ويركض به للطوابق العليا، ولا يعلم بعدها الموظفون النتيجة.

استغرب المسؤول الأول، وسألهم: ألم يكن هو الذي يقوم بالأعمال ويشرف عليها؟! أجابوا بالنفي، وردوا على سؤاله بسؤال: هل كان مسؤولنا يخبر سعادتك بأن هذا العمل من إنجاز فلان، وأن ذاك الإنجاز تحقق بجهود علان، وأن هذا المشروع كان فكرة هؤلاء النفر؟! فأجاب المسؤول بالنفي، وأنه كان يظن بأن مسؤولهم هو «الدينامو» الذي يقوم بكل شيء، ويحركهم ويوجههم.

اعتذر منهم وقال إنه لم يعرف، فرد عليه أحدهم والتأثير بالغ عليه: وكيف لسعادتك أن تعرف وأبوابك تغلقها حاشيتك، وبطانتك تشوه صورة المخلصين من موظفيك وأصحاب الكفاءات، كيف تعرف وأذناك لا تسمع سوى «فحيح» الواشين والمنافقين والكاذبين. أنت في مكانك بالأعلى لك نواياك الطيبة تريد أن تنجز وتنجح، لكن من تحتك لا يفكرون مثلك، هم تهمهم مصالحهم الخاصة، ولأجلها لا بد من «قمع» كل صوت «ناصح»، ولا بد من «قتل» كل طاقة.

رفع المسؤول الأول السماعة واتصل بمسؤولهم المسافر، وعندما أجاب قال له: عندما تعود لأرض الوطن لا تأتي للقطاع، بل اذهب إلى بيتك، تم الاستغناء عن خدماتك بسبب «سرقتك» مجهود الآخرين، وقتلك لطموحاتهم، وخنقك لأصواتهم حتى لا تصل.

أغلق السماعة والتفت لبقية الموظفين وقال: إصلاح المشكلة يكون بمعرفة أسبابها والقضاء عليها، والآن لنعمل معاً كأسرة واحدة، لكن قبل ذلك اخلعوا باب مكتبي، فلا أريد أن يكون بيني وبينكم «حاجز» بعد اليوم.