حين تولى الخليفة العباسي المأمون ابن هارون الرشيد الخلافة انحاز بشدة إلى المعتزلة، وهم أصحاب مذهب فكري، فرض توجهاتهم على المنهج الفكري للدولة. وكان المعتزلة قد دخلوا في جدل شديد مع من كانوا يسمون «أهل الحديث»، حول قضايا كثيرة من بينها القضية الأشهر في تاريخ الفكر الإسلامي، قضية خلق القرآن. ودون الخوض في تعقيدات الخلاف الفكري بين المعتزلة مع غيرهم، فإن المعتزلة كانوا يرون أن أفكارهم تجيب عن أسئلة كثيرة في مجال العقيدة.

ولم يكن المأمون في حاجة الى دعم سياسي من المعتزلة، فقد تغلب على أخيه الأمين وقتله بعد أن حاول، الأخير، انتزاع ولاية العهد منه وتحويلها لابنه. كان مبعث تبني المأمون لفكر المعتزلة هو التكوين الشخصي له حيث تتلمذ على يد أحد كبار شيوخ المعتزلة «أبي الهذيل العلاف» وأغرم بالبحوث والعلوم. وظهر ذلك جلياً من أثر عهده الفكري وامتداد هذا الأثر في مسار الحضارة العربية الإسلامية. فقد فعّل المأمون دور بيت الحكمة، وأرسل مبعوثين للقسطنطينية واليونان وقبرص وغيرها من البقاع لجلب أمهات الكتب وترجمتها من السوريالية والفارسية والهندية ومختلف اللغات. وشجع العلماء والمخترعين. وأعد بعثة جغرافية لقياس قطر الأرض إيماناً منه بأن الأرض كروية. كما انتعشت المناظرات في عهده، وتضاعف تأليف الكتب إلى أرقام قياسية.

قصة المأمون مع المعتزلة تبين أن التحول الفكري للدول يمكن أن يكون قراراً سياسياً إذا وافق حراكاً شعبياً، وبإمكان السلطان أن يكون قائداً للدولة ومخططاً استراتيجياً للثقافة والإبداع.

قبل ثورة يوليو 1952، كانت مصر تخضع للنظام الإقطاعي وللتقسيم الطبقي، حيث كانت نسبة كبيرة من الشعب تنقسم بين فئة أمراء القصر وفروعهم، وبين باقي فئات الشعب الفقير. وكان الملك ينعم على رعيته بالألقاب الطبقية مثل الباشا وغيرها تبعاً لترقيهم الطبقي. وكان من الصعب على فئات شعب القرى والمناطق النائية الحصول على تعليم متكافئ مع غيرهم ومن الصعب عليهم تولي المناصب القيادية في المملكة. وبعد الثورة تبنت السلطة الجديدة الاتجاه الاشتراكي واهتمت بحل أزمة العدالة الاجتماعية وعمدت إلى زيادة تمليك فقراء المزارعين للأراضي وزيادة تشييد المصانع من أجل رفع الإنتاج لتتمكن تلك الفئات من العيش والحصول على فرص متكافئة في مختلف المجالات.

قصة العدالة الاجتماعية في ثورة يوليو وإنجازاتها تبين أن الإصلاح الاجتماعي هو في كثير من الأحيان قرار سياسي يأتي من السلطة إذا تأسس على دراسة واعية لأزمات المجتمع، وإذا حمل معه برنامج عمل حكومي وطموح، قادر على تغيير الواقع الاجتماعي وفتح الأفق أمامه نحو العدالة والاستقرار.

وبإمكاننا قراءة الإصلاحات الأخيرة في المملكة العربية السعودية في هذا الاتجاه. فقد بدأت تلك التوجهات بتقليص دور «مؤسسة» هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بإعلان السماح للمرأة بقيادة السيارة. ثم لحقه قرار بإلحاق المرأة بمراكز الفُتيا. وهو اختراق للموروث الديني الذي يبخس حق المرأة في الزعامة الدينية وفي تمثيلها في «المؤسسات»، ذات الطابع الديني. وأخيراً القرار الأخير بتأسيس معهد خاص لتحقيق الأحاديث النبوية وفرز ما صح منها وما بطل بما يحارب ظاهرة استخدام الدين على كل الأوجه استناداً إلى ما حوته بطون كتب التراث من غث وسمين من الأحاديث.

إن إعلان ولي العهد السعودي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان أن المملكة ستحارب التطرف مركزاً على مظاهر ما عرف بالصحوة التي انطلقت عام 1979، هو إعلان تاريخي جريء يختم صفحة من صفحات التيه الإسلامي التي استنزفت جيلاً كاملاً بحث عن الحقيقة في الجماعات الدينية التي اشتد عودها بذريعة بعث الصحوة ونشر دين الله الحق ومحاربة التيارات الفكرية مثل القومية والماركسية، فلم يجد أمامه إلا الجهاد في أفغانستان والعراق وسوريا والصومال لتأسيس دولة الخلافة. ثم حين دار ببصره وجد مشايخ الجهاد يسكنون القصور ويركبون «الرولزرويس» ويحرصون على تعليم أبنائهم في أعرق الجامعات العالمية، ويتقاضون آلاف الدولارات عن كل ساعة يخرجون بها على شاشات الفضائيات وعن كل محاضرة يسافرون بها إلى أقطار الدنيا.

قرار طي صفحة الصحوة الإسلاموية التي كانت، بالأساس، تدخل موتاً سريرياً يدل على أن الإصلاح الديني هو الآخر قرار سياسي يقرأ الواقع المحيط والتغير التاريخي والثقافي والسياسي ويحمي المجتمع من آثار الانغلاق وتسلط «المؤسسات» الدينية.