هناك أشخاص حتى لو رحلوا من حياتنا، حتى لو غادرونا وبكيناهم بحرقة، إلا أن حبهم يزيد ويكبر، كلما نتذكرهم تدمع عيوننا وتنزل لا إرادياً، لأنهم زرعوا بداخلنا شعوراً وارتباطاً قوياً، يبقيهم «خالدين» في القلوب مهما مر الزمن.

هذا هو شعور كل البحرينيين المخلصين تجاه والد الجميع، وحبيب البحرينيين «الراحل الكبير» صاحب العظمة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البحرين رحمه الله والد صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى حفظه الله.

السادس من مارس في كل عام، يوم لا يمر على البحرينيين بسهولة، فيه ذكرى توجعهم، وتقبض قلوبهم، هو يوم رحل فيه والدهم، الرجل الذي أعلنت البحرين استقلالها في عهده، وبدأت معه مرحلة جديدة نحو التطوير والتحديث، يكملها اليوم بجدارة نجله وخلفه الصالح جلالة الملك.

عيسى بن سلمان، الرجل الذي كنا نفرح صبيحة كل عيد بخطابه، نترقب اليوم الوطني ليبدأ كلمته السامية بعبارة «شعبنا العزيز»، والتي كنا نرد فوراً عليها من خلف الشاشات «أنت العزيز وأعز الأعزاء أبا حمد».

19 عاماً منذ رحل عنا عيسى بن سلمان، وكل عام يمر نتذكر ذكراه العطرة، نغص بمرارة فقده، فلقد علمنا هو كيف يكون الإنسان البحريني بشكله الحقيقي، حين تتحدث عن الطيبة، فإن عيسى بن سلمان كان رمزاً لها، بل كان أبلغ مثال ونموذج لما يجب أن يكون عليه البحريني الطيب.

يتحدث البحرينيون دائماً عن مآثر والدهم الراحل الكبير، كيف كان بسيطاً في تعامله مع الناس، يضحك معهم ويتحدث بعفوية معهم، تحس بالراحة والطمأنينة في حضرته، يحب أهل الخليج، وكل بلد وطأها.

هناك مقاطع فيديو نادرة انتشرت لوالدنا الراحل، جميلة في مضامينها، أحدها وهو في الطائرة يتحدث مع صحفي بريطاني، بلغة إنجليزية متمكنة ورائعة، تواضع أمير لا يوصف، يعرف الصحفي على صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان رئيس الوزراء شقيقه و«توأم روحه». مقاطع جميلة تذكرنا دائماً بالرجل الجميل الذي اهتزت أرض البحرين بأسرها لفقده من فرط بكاء الناس عليه.

هناك أشخاص يتركون بصمات في قلوب البشر، بالتالي لا يمكن أن تغيب ذكراهم، لا يمكن أن ينساهم التاريخ، وحينما تتجدد ذكرى رحيلهم السنوية، يسترجع الناس ذاك اليوم الذي بكت فيه البحرين.

كنت جالساً في مكتبي بصحيفة أخبار الخليج ذاك اليوم، وقع علينا الخبر كالصاعقة، ساد الصمت الممزوج بالألم، رحل عيسى بن سلمان عنا، رحل الأمير الذي فتحت عيني عليه، أميراً لبلدي، حاكماً عادلاً متواضعاً، والداً حنوناً، تذكرت أول مرة وأنا طفل صغير حينما أخذني والدي لديوان سموه صبيحة يوم العيد للتشرف بالسلام عليه، أتذكر كلامه وتشديده علي بقوله: «ارفع نفسك، ولا تجعل الشيخ ينحني ليصل لك»، حاولت جاهداً أن أقف على أطراف أصابعي وأنا الطفل في السادسة من عمري لأصل لأنفه مقبلاً إياه، ولأستمع منه لكلمات والد حنون، مازلت أحبه وأبكيه كل عام.

أدرك بأن كل بحريني محب لبلاده مخلص لقيادته يؤلمه هذا اليوم، تزعجه هذه الذكرى، ولا يملك إزاءها إلا التخفيف على نفسه، بأن أميرنا عيسى بن سلمان عند ربه في جنات الخلد، فهو الرجل الذي خيره على الجميع، المتواضع الحنون الطيب، ومثل هؤلاء الرجال أفعالهم ومكارمهم وطيب خصالهم تشفع لهم عند رب العالمين، ويجزيهم عليها خير الجزاء.

جلالة الملك حمد بن عيسى، أنت القطعة الثمينة من عيسى بن سلمان، أنت نجله الذي تشرب منه الطيبة والأخلاق والشجاعة وحب الخير، نرى فيك امتداداً رائعاً لوالدك ووالد البحرينيين، فأنت خير سلف لخير خلف، وما السنوات التسعة عشر الماضية إلا إثبات بأن روح عيسى بن سلمان موجودة في حمد بن عيسى، ودعواتنا بأن تظل سنوات حكمك مديدة، وأن يزيد حبك في قلوب الناس.

كتب جلالة الملك في مقال رائع بكتابه الضوء الأول الجملة التالية: «إنني كابن لعيسى وحافظ لعهده سوف أحمل لواء نهجه الذي لا يميز بين أبناء الوطن الواحد في اختلاف الأصول والمذاهب، ولا ينظر إلا لصدق الانتماء الوطني، وروح المواطن الحقة التي تريد الخير للبحرين وأهلها كافة».

وأنت كذلك يا صاحب الجلالة، أنت الحافظ لعهد عيسى بن سلمان، أنت الحافظ بإذن الله للبحرين وشعبها، أيدك الله وحفظك.