في بعض المؤتمرات نلاحظ تكلف القائمين على المؤتمرات بتقديم خدمة «VIP» لضيوفهم من المثقفين وخصوصاً المتحدثين منهم، بينما يلفتنا مثقف من عصر مضى مازال يعتقد أنه مركز الكون أو أنه الفيلسوف الشامل، فتراه يقف على المنصة ليبدو مقصراً في طرحه ولا يعطي مما أعطاه الله من علم أو فضل إلا نزراً يسيراً..!! ومن الغريب أنه إذا ما تم تجاوز أحد هؤلاء فيما بعد من قبل الجهات المنظمة للمؤتمرات كونه لم يقدم الإضافة العلمية المأمولة المتوقعة منه بثقله العلمي، تجده ساخطاً بزعمه ضعف أو ضحالة الجمهور وساخطاً على المسؤولين الذين شرعوا الأبواب لمبدعين كانوا أكثر تواضعاً منه، بينما هو العلة لأنه لم يقدم زكاة علمه، ولم يقدر بذل المستضيفين، متناسياً أهمية مواكبة الثورة المعلوماتية بإتاحة المجال للآخرين للنهل من علمه، في زمن العصر الرقمي ومجانية المعلومات.

أتابع بشغف إنتاج مؤسسة الفكر العربي الرائدة، ونشرتها الإلكترونية أفق الصادرة عن مركز البحوث والدراسات التابع للمؤسسة، وقد لفتني مؤخراً مقال «موت المثقف وولادة مفهوم الفاعل التواصلي» لمؤلفه فخري صالح، الذي تناول مفهوم المثقف عبر ما يزيد على قرنٍ من الزمن، في ثقافات العالم المختلفة، مشيراً إلى أن مفهوم المثقف ينطوي على العاملين بالكلمة والريشة وطوائف المشتغلين في المسرح والسينما والدراما التلفزيونية، والباحثين والأكاديميين، والعاملين في الصحافة، وكتاب الأعمدة الصحافية، ممن يعبرون عن الشعوب ومصالحها، ومن مفهوم المثقف ينطلق إلى مفهوم حديث آخر يتناسل عنه وهو مفهوم الطليعة الذي «يبدو أكثر التباساً وإثارةً للجدل».

يستعرض الكاتب في مقاله الشيق كيف أن أشكال التواصل الجديدة قد أسهمت في هدم التراتبية القائمة سابقاً بين فئتين من طبقتين مختلفتين كالمثقف والجماهير، والخاصة والعامة، وبين الحاكم والمحكوم وغيرها. وكيف أفضى ذلك إلى تغير مفهوم الجمهور، في ظل انقضاء زمن الاتصال أحادي الاتجاه، الذي اعتبره علاقة تسلطية بين المثقف وجمهوره باتت تنتمي إلى العالم القديم، فالعصر الحديث بفضل الشبكة الإلكترونية قاد لثورة اتصالية متعددة الاتجاهات، ألغت المعلم أو القائد أو الزعيم الأوحد لتقيم بدورها ثورة أخرى على مفهوم المثقف، في انتقال صاروخي «من عصر احتكار المعرفة إلى عصر مجانيتها». وقد اختتم الكاتب مقاله بدعوة «المثقف التقليدي» إلى أهمية الاعتراف «أن الزمان أصبح غير الزمان، وأنه صار واحداً من بين كثيرين يساوونه في المكانة، ولم يعد في الطليعة: يعلم ويوجه ويقود».

من هنا يمكنني القول إن مفهوم تواضع العلماء -الذي كنا نتلمسه عند كثيرين ولا نجده- لم يعد خياراً لهم إذا ما أرادوا البقاء، فالزمان يجبرهم على أن يعيدوا النظر في تقييمهم لأنفسهم، وما لم يجد المثقف بما أوتي من علم ليؤجر بزكاة علمه، سيقوم غيره بتقديم ما لديه وأكثر -فالمعرفة لم تعد حكراً على أحد وقد أصبحت مجانية للجميع- ولن يكسب هو إلا الذل والتهميش لعدم انخراطه في عجلة العطاء الإنساني المعلوماتي المتبادل. يدعو ذلك أيضاً للقول بأهمية التعاطي مع الأفكار وتبادل المعلومات بمرونة وعدم ادعاء كمال العلم وتمامه، فإن الجمهور في مجال ما، هو نفسه المؤثر والقائد في تخصص آخر، إذ إن تشعب التخصصات وتعقدها أفضى إلى غياب نموذج الفيلسوف الموسوعي أو المفكر والمنظر الشامل منذ زمن بعيد.

* اختلاج النبض:

في زمن مضى كان بعض المثقفين الطواويس يصرون على أن تزين لهم المنابر، حتى يتفضلوا علينا ببعض علمهم. الآن أصبح عدد المتابعين «Followers» هو أكبر دافع لاجتهاد كل من يأتي تحت الأضواء من مثقف أو مبدع، بل إن هذا مطالب بإضافة عنصري الابتكار والتشويق لإنتاجه حتى نتقبله، وهذا بفضل الثورة الرقمية وثورة المعلومات.