أحد مفارقات الرئيس التركي أردوغان، مباركته مشروعاً ضخماً تبنته بلاده في يوليو 2009، يحمل اسم «نابوكو» تيمناً بسيمفونية الموسيقار الإيطالي جوزيبي فيردي، الذي يعكس فيها معاناة اليهود في رحلة الأسر البابلي عام 587 قبل الميلاد.

خط أنابيب نابوكو لنقل الغاز الطبيعي يعمد إلى الولوج داخل العمق الأوروبي كمنافس للخط الروسي الذي طالما استخدمته موسكو في الضغط السياسي على دول «القارة العجوز». يبلغ طول هذا الخط نحو 3300 كيلومتر، إذ ينطلق من مدينة أرضروم التركية، ماراً بكل من بلغاريا ورومانيا والمجر، لينتهي عند منطقة «باومكارتن أن در مارش» المصنفة كخط رئيس للغاز الطبيعي في النمسا.

هذا الخط لن يؤمن أكثر من نحو 5% من الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي سنوياً، كما أنه رغم تأثيره على الإمداد الروسي، إلا أنه لم يرتبط -بعد- باحتياطي ينافس الموجود لدى هذه الأخيرة البالغ نحو 26% من حجم الاحتياطي العالمي. ولذلك يتدخل التحليل الجيوستراتيجي ليفرز أوراق المعادلة في هذه العملية، مستنداً إلى الخيارات الأخرى التي من شأنها تقوية خط «نابوكو» على حساب خطوط «الدب الروسي».

من جهة أولى، تبرز إيران باحتياطيها الذي يحتل الترتيب الثاني عالمياً بعد روسيا بنحو 18%. وهي دولة «مارقة» بوصف «الشرطي الأمريكي» الذي يكبلها بقيود اقتصادية حـَدَّت من استغلال هذا المورد الهائل، لكن الانفراجة «المؤقتة» بالاتفاق النووي أبدت لها «طعم الشهد» من الانفتاح الأوروبي وخصوصاً على مصادر الطاقة لديها.

قطر من جهة ثانية، تملك الاحتياطي الثالث في العالم بنحو 13%، لكنها على عكس إيران تزخر بعلاقات جيدة مع دول الطلب الأوروبي، حتى إنها في 2009 حاولت النفاذ إلى أوروبا براً، عن طريق خط أنابيب يعبر سوريا إلى تركيا، متصلاً بالتالي مع «نابوكو»، إلا أن النظام السوري -حليف الروس- رفض الأمر برمته. وهذا أحد أهم الأسباب التي دفعت قطر إلى اقتحام الأزمة السورية منذ اندلاعها في 2011، بحسب ما أكدته تقارير صحافية.

قطر وإيران تشتركان في أحد أكبر حقول الغاز غير المصاحب في العالم، إذ تبلغ مساحة حقل الشمال البحري نحو 9700 كيلومتر مربع، يقع ما نسبته 62% في المياه الإقليمية القطرية و38% في المياه الإقليمية الإيرانية، وينتج هذا الحقل 60% من حجم الصادرات القطرية.

يبرز الاحتياطي رقم «أربعة» ذو الـ9% من مقدرات الغاز العالمية في دولة تركمانستان. هذا البلد الذي يشترك مع كل من إيران وروسيا في ثروات بحر قزوين، يعاني من النفوذ الروسي خصوصاً في إشكالية تحديد التوصيف للمسطح المائي المشترك بينهم. فروسيا تدفع نحو اعتبار بحر قزوين «بحيرة»، ما يؤهلها لأن تطالب بتوزيع مشترك للثروات فيها، وذلك على عكس تفسير قانون البحار الذي يتبنى وصف «البحر»، وبالتالي يقسم مناطق النفوذ إلى مياه إقليمية ومناطق اقتصادية وأخرى عميقة وغيرها.

أحد السيناريوهات المطروحة هنا، سياسة «ملء الفراغ»، فإيران تملأ «فراغها» الاقتصادي داخل السوق الأوروبية، وتركمانستان تأخذ صك «حريتها» من قبضة الروس لتبيعها في «النخاسة» الأوروبية، وقطر بدورها تنحل من عمقها الخليجي متجهةً إلى «العالمية» عبر قوتين إقليميتين، تركيا وإيران، اللتين بطبيعة الحال لهما مشاريعهما المتصادمة مع المصالح العربية عامة والخليجية خاصة.

هذا الوضع له سلبياته على كل من الروس والدول الخليجية الأخرى، وعلى وجه التحديد المملكة العربية السعودية، لذلك ليس غريباً أن يُلحظ في المساق الدبلوماسي نوع الاستقبالين المتقابلين في الرمزية لدى الكرملين لكل من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز من جهة والأمير تميم من جهة ثانية، إذ كان واضحاً البحث عن التنسيق مع الأول والبحث عن «التسفيه» مع الثاني.

الأكثر دلالةً من ذلك، ليس من باب الصدفة أن يكون المطلبان الأولان من المطالب الثلاثة عشر المقدمة إلى قطر في 24 يونيو 2017، متعلقين بكل من إيران وتركيا. فالأول طلب قصر العلاقات «القطرية - الإيرانية» على الجانب التجاري الذي لا يضر بأمن الخليج مع وقف كل تعاون استخباراتي وأمني بينهما، والثاني نص على «... الإغلاق الفوري للقاعدة العسكرية التركية... ووقف أي تعاون عسكري مع تركيا داخل الأراضي القطرية».

هذه المؤشرات وغيرها، أثبتت للحكومات الخليجية أن قطر تلعب بـ«الغاز» وإن شئت الدقة قل: «... تلعب بالنار».