تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه ، وبحضور قداسة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين ، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء ، فشمل جلالته برعايته الكريمة الحفل الختامي لملتقى البحرين للحوار " الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني" في دورته الأولى والذي أقيم في ميدان صرح الشهيد هذا اليوم.

صور


حضر الحفل الختامي كبار المسؤولين ، وكبار المشاركين في المؤتمر وعدد من المدعوين.


وقد مرت أمام المنصة الملكية طائرتان عموديتان من سلاح الجو الملكي البحريني تحملان علم مملكة البحرين وعلم الفاتيكان.

بعد ذلك تفضل حضرة صاحب الجلالة وقداسة بابا الفاتيكان وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بالتوجه لسقى النخلة.

وفي مستهل الحفل ، تفضل حضرة صاحب الجلالة ملك البلاد المعظم بإلقاء كلمة سامية بهذه المناسبة هذا نصها:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

قداسة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان،

فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف،

أصحاب الفضيلة والعلماء من ممثلي الأديان،

الحضور الكريم،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

صور


إنه لمن دواعي اعتزازنا أن نرحب، مجدداً، بقداسة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، وبفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، الذيّن عملا على إثراء هذا الملتقى وإنجاح هذه الزيارة الكريمة، وإننا لهما شاكرين ومقدرين لما قاما به، سائلين المولى أن يعينهما على أداء مهامهما العظيمة ويجعلها خالصة لوجهه الكريم.

كما نرحب بضيوفنا الكرام أطيب ترحيب، ويسرنا اللقاء بكم في هذا اليوم المبارك، بمناسبة انعقاد ملتقى البحرين للحوار من أجل الإنسانية، الذي نعتبره يوماً مشهوداً وحدثاً بارزاً، والتي تتفق أهدافه السامية مع ما تسعى له بلادنا لخير البشرية ورفعتها، لينعم كل إنسان بالحياة الكريمة والمطمئنة في عالم أكثر استقراراً وأمناً.

ويطيب لنا أن نعرب للجميع عن حرصنا واهتمامنا الكبير برعاية هذا التجمع العالمي الهام، إيماناً منا بالدور المؤثر للقيادات الدينية، وأصحاب الفكر، وأهل الاختصاص في معالجة مختلف التحديات والأزمات التي تواجهها مجتمعاتنا لمزيد من السلام والاستقرار.

صور


ويسعدنا في ختام أعمال هذا الملتقى المبارك، أن نهنئكم على نجاح أعماله، بحضور ومشاركة هذه الصفوة من حكماء الشرق والغرب، الذين رهنوا أنفسهم لخدمة الإنسانية والعمل من أجل رفعتها، واتحدوا قولاً وعملاً لإعلاء قيم السلام والتعارف المتبادل، وبالتعاون على البر والتقوى لتعزيز التآخي والتعايش السلمي بين شعوب الأرض كافة.

ضيوفنا الأفاضل، لقد تابعنا جميعاً، وبكل اهتمام، مداولات الملتقى ونقاشاته، وإننا لننظر إلى مخرجاته وتوصياته القيّمة، بعين التفاؤل وبكثير من الأمل، كخير دليل لتقوية مسيرة الأخوة الإنسانية، التي هي بحاجة ماسة، أكثر من أي وقت مضى، لإحياء سبل التقارب والتفاهم بين جميع أهل الأديان والمعتقدات كمدخل أساسي لإحلال التوافق محل الخلاف، وإرساء الوحدة محل الفرقة.

ولا يسعنا على ضوء ما توصلتم له من نتائج مهمة، نؤيدها أشد التأييد، إلا أن نؤكد لكم بأننا سوف نوليها - بإذن الله - جل عنايتنا، لتأخذ مسارها الصحيح ضمن مساعينا التي نبذلها للإسهام في نشر السلام وترسيخ قيم التسامح والعيش المشترك بين دولنا وشعوبها.

صور


وتحتم علينا الأوضاع الراهنة، ونحن نعمل، يداً بيد، لتحقيق أمل المستقبل المزدهر، بأن نتوافق أولاً على رأي واحد لوقف الحرب الروسية الاوكرانية وبدء مفاوضات جادة لخير البشرية جمعاء، والبحرين على أتم الاستعداد لتقديم ما يتطلبه هذا المسعى بإذن الله.

وختاماً، نتوجه بخالص تقديرنا للمشاركين الأجلاء على ما يبذلونه من جهد مقدر وسعي مشكور في أداء مهامهم النبيلة، وبالشكر والامتنان للجهات المنظمة التي أسهمت في الإعداد للملتقى وتنظيمه كما يجب، داعين الله عز وجل، أن يسدد خطى الجميع بالتوفيق والبركات على درب المحبة والوئام بالتواصي بالحق وبالصبر لصلاح البشرية وخيرها.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

بعد ذلك ألقى فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين كلمة جاء فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصَحبِه.

جــلالة المَلِك/ حمــد بن عيســى – مَلِـك مَمْـَلكة البَحْــرين حفظه الله

الأخ العــزيز / فرنســيس – بابا الكنيسة الكاثوليكية

حضرات السادة والسيدات

السَّلام عَليكُم ورحمةُ الله وبركَاتُه.. وبعد؛

فأبدأُ كلمتي بتقديم خالص الشُّكر والتَّقدير لكم -جلالة الملك- ولشعبِكم الأصيل الكريم، شعبِ البحرين، على دعوتي لزيارة مملكة البحرين العزيزة، والمُشاركةِ في هذا الملتقى الكبير: «مُلْتقَى الشَّرق والغرب من أجلِ التعايش الإنساني».

وإنَّه لملْتقًى تاريخيٌّ لما يضمُّه من قاماتٍ كُبرى من العُلماءِ والحكماءِ وقادَة الفِكْر، وكبار والسِّياسيِّينَ والإعلاميِّينَ وغيرهم من شَرْقِ البلادِ وغربِها.. وهو -كذلك- مُلْتقًى يَسْتحِقُّ أنْ يتوقَّفَ التاريخ عنده ليُسجِّل كلماته وتوصياته بأحْرُفٍ من نورٍ؛ فهو صوتٌ ينبعث من البحرين هذا البلد العريق، صاحب الميراث التَّليد في الجنوح إلى السَّلام والتسامُح وتعايُش الحضارات والثقافات وحواراتها، وتحويل ما يُلائم منها إلى مصدرِ طاقةٍ خلَّاقةٍ ومُبْدِعةٍ تَصُبُّ في اتِّجاهِ الاستقرارِ المجتمعيِّ، والتطوُّر الاجتماعي البَنَّاء..

صور


هذا؛ وما أظنُّني -أيُّها الحفــلُ الكَــريم!- في حاجةٍ إلى أنْ أُكَرِّر على مَسامِعِكم أحاديثَ الصِّراع الذي تعيشُه الإنسانيَّة اليومَ في الشَّرقِ والغَرب، ولا وَصْفَ ثَمَراتِه المُـــرَّة التي يَجنيها إنسانُ القَرْنِ الحادي والعشرين: حروبًا ودماءً وتدميرًا وفقرًا، بل ثُكلًا ويُتْمًا وتَرمُّلًا وتَشْريدًا، ورُعبًا من مُستقبلٍ مجهولٍ، غير أنَّ من المهم الإشارةَ إلى أنَّ سببَ هذه المآسي هو «غياب» ضابط «العدالة» الدوليَّة الذي وضَعَه الله قانونًا لاستقرارِ المجتمعات، وتحقيقِ توازن الإنسان: جَسَدًا ورُوحًا على هذه الأرض، وإلَّا تحوَّلت المجتمعات الإنسانيَّة إلى ما يُشبه مجتمعات الغاب والأحراش.. دَعْ عنكَ ضحايا الحروب التي يَصْنعُها «اقتصاد السُّوق» واحتكارُ الثَّروات، وجشعُ التَّمَلُّكِ والاستهلاك، وتجارةُ الأسلحة الثقيلة والفتَّاكة وتصديرُها إلى بلدانِ العالم الثالث، وما يَلزَمُ ترويجها من تصديرٍ للنِّزاعِ الطَّائفيِّ والمذْهَبيِّ، وتشجيعٍ للفتنةِ والنِّزاعِ، وزعزعةِ الاستقرار..

وثالثة الأثافي أنَّ السِّياساتِ التي تُثْمر هذه المآسي أصبحت تدعمُها نظرياتٌ فلسفيَّةٌ نزلَتْ إلى واقع المجتمعات الغربيَّة، وحكمت تصوُّرات الدول الكُبرى في علاقاتها الدوليَّة مع الشعوب النَّامية والفقيرة، وتأتي في مُقدِّمةِ هذه النَّظريات: نظريَّةُ صِراع الحضارات، ونظريةُ نهاية التاريخ، ونظريةُ العولمة، وكلُّها نظرياتٌ استعلائية تُمهِّد لميلادِ نظامٍ عالميٍّ جديدٍ، وتُمكِّنُ لاستعمارٍ حديث لا نعرف قوادمه من خوافيه، ومنذُ أيَّامٍ قليلةٍ فقط سمعنا تصريحات لأحد كبار المسؤولين الغربيِّين يقولُ فيها ما معناه: أنَّ أوروبا حديقة غنَّاء، والعالـَم من حولها أدغال وأحراش، ومثلُ هذه التصريحات غير المدروسة إنْ دلَّت على شيءٍ فإنَّما تدلُّ على جهلٍ واضحٍ بحضاراتِ الشَّرقِ، وبتاريخِها الذي يضربُ بجذورِه إلى أكثر من خمسة آلاف عام، وليس إلى ثلاثمائة أو أربعمائة عام فقط..

صور


على أنَّ جُلَّ هذه المخاوفِ التي تُساورُ نفوسَ الشَّرقيِّين اليـوم من الحضارة الغربيَّة، تُساورُ –وبالقدرِ ذاتِه– عقولَ نخبة مُتميَّزة من مُفكِّري الغرب وكبار قادته، فقد أدركَ بعضُهم أنَّ «السِّياسة الغربيَّة لم تَعُدْ مُجْدِيةً في معالجةِ الأزمات العالميَّة، لما تتَّسِمُ به من تشنُّجاتٍ تقومُ على استعراضِ «عضلات السِّلاح المدَمِّر الذي يُهدِّدُ الإنسانيَّة» واقْترحَ أنْ تحلَّ «الثقافة» محلَّ السِّياسة، في العلاقات الدوليَّة، لما للثقافة من قُدْرةٍ على فَهْمِ الإنسان، واستيعاب أبعاده المتعدِّدة: جَسَدًا ورُوحًا وعَقْلًا ووجْدَانًا».

ومَرَّةً أُخرى لا ينبغي أن نيأسَ من أنْ يأتيَ يوم قريب تستعيدُ فيه علاقات الشَّرق والغرب صِحَّتها وعافيتها، لتُصبح علاقةَ تكامُلٍ وتعاون مُتبادَل، بعدما تقاربتْ المسافات وتَلاشَت الحدود، ولم يَعُدْ أيٌّ من الغربِ والشَّرقِ بمعزلٍ عن الآخر كما كان في القرنِ الماضي.

والحقيقةُ: أنَّ الغربَ في حاجةٍ إلى حِكْمَةِ الشَّرقِ وأدْيانِه وما تَربَّى عليه النَّاس من قِيَمٍ خُلُقيَّةٍ، ونظرةٍ مُتوازنة إلى الإنسانِ والكون وخالقِ الكون، وهو في حاجةٍ إلى روحانيَّةِ الشَّرق، وعُمْق نظرته إلى حقائقِ الأشياء، وإلى التَّوقُّف طويلًا عند الحكمة الخالدة التي تقول: «ليس كلُّ ما يَلْمَعُ ذهبًا»، بل إنَّ الغربَ لمحتاجٌ إلى أسواقِ الشَّرقِ وسواعد أبنائه، في مصانِعه في أفريقيا وآسيا وغيرهما، وهو في حاجةٍ إلى الموادِّ الخام المكنوزة في أعماقِ هاتين القارَّتين، والتي لولاها لما وجدت مصانع الغرب ما تنتجه، وليس من الإنصافِ في شيءٍ أن يكونَ جزاء المحسن مَزيدًا من الفقرِ والجهلِ والمرضِ.. والشَّيء ذاتُه يُقالُ على الشَّرقِ، فهو في حاجةٍ إلى اقتباسِ علوم الغرب والاستعانة بها في نهضَتِه التِّقنية والماديَّة، واستيراد المُنتجات الصِّناعيَّة، من أسواقِ الغرب؛ كما يجبُ على الشَّرقيِّين أنْ يَنْظُروا إلى الغربِ نظرةً جديدة فيها شيء من التَّواضُع، وكثيرٌ من حُسْنِ الظَّنِّ والشُّعُور بالجارِ القريب، والفَهْم المتسامح لمدنيَّة الغرب وعادات الغربيِّين بحُسبانِها نتاج ظروف وتطوُّرات وتفاعُلات خاصَّة بهم دفعوا ثمنَها غاليًا عبرَ قرونٍ عِدَّة.

وعلى علماءِ الإسلام ألَّا يَمَلُّوا من توضيح «ما في الدِّين الإسلامي من المبادئ السَّامية، والإخاء البشري والتعاون الإنساني وغيرها من المشتركات التي يتصالح عليها الغربيِّون والشَّرقيِّون ويُرحِّبُونَ بها، وأنْ يحرصوا على تعريفِ الغربيِّين للإسلامِ على حقيقتِه».

كما تجبُ الإشارةِ إلى أنَّ كثيرًا من المسلمينَ هاجروا إلى الغربِ واسْتَوطَنوه، وصاروا جزءًا لا يَتجزَّأُ من نسيجِ شُعُوبِه، كما هاجرت أنماطُ الحياة الغربيَّة وصورها إلى الشَّرقيِّين وغَلَبَتْ على تقاليدِهم وعاداتِهم وسلوكياتِهم الحديثة والمعاصرة، وأثَّرَتْ على مساحة لا يُستهانُ بها في رؤاهم وأنظارهم، بل في مناهج تعليمِهم وطرائق تفكيرِهم.. وغير ذلك مِمَّا يُمهِّدُ، لأنْ تـحلَّ علاقة إنسانيَّة جديدة، تُدرج فيها حضارةٌ هادئة يُحافَظُ فيها على ثقافاتِ الشُّعُوب وخصائصها وتَبايُناتها، بعيدًا عن مَساراتِ الهَيْمَنة الثقافيَّة والحضارات المتصارعة.. وهذا ما يُؤكِّدُه المفَكِّر الفرنسي المعاصر تودوروف تِزْفيتان في كتابِه: «الخوفُ من البَرابرة»، حيث يقول: «إنَّه لا يُمْكِن اعتبار الثقافة الغربيَّة وحدها ذاتَ طابعٍ حضاري، وأنَّها المعيار الذي تتحدَّدُ به ثقافات الآخرين» فأيُّ تدخُّل في ثقافاتِ الآخرين يُعَدُّ إساءة في استخدامِ السُّلْطَة؛ لأنَّه لا يُمْكِن إرساء الحُريَّة والمساواة عبر الإكْرَاه، وإلَّا فلن نختلف عن هؤلاء الذين نَصِفُهُم بأنَّهم [برابرة]» .

ولقد أكَّدتْ ذلك في وضوحٍ شديدٍ وثيقةُ «الأخوة الإنسانيَّة»، تلك التي أحْدَثَتْ حِراكًا مَلْمُوسًا -في الشَّرقِ والغرب- وقدَّمَتْ أنمُوذجًا مُتمَيِّــزًا لما ينبغي أن يكون عليه حوار الأديان والحضارات من احترامٍ مُتبادَلٍ وتأثيرٍ فعليٍّ في علاقاتِ الشُّعُوبِ المبنية على التعارُفِ والتعاون والأُخوَّة والسَّلام، وسلَّطتْ الضوء على أهمية العلاقة بين الشَّرق والغرب، وكيف أنَّ لكلٍّ منهما أن يستفيدَ من الآخَر.. وأنا واثقٌ بإذنِ الله من أنَّ مسيرةَ الأُخوَّة الإنسانيَّة والتي يُعَدُّ هذا الملتقى التاريخي على أرضِ البحرين الطيِّبة أحدَ أهمِّ روافدها وأركانها الدَّاعمة سوف تُسهمُ في تعزيزِ هذا التَّقارُب والتَّعارُف بين الشَّرقِ والغرب.. وكيف لا! وقد مثَّل إعلانَ مملكة البحرين للتَّعايُش السلمي خطوة مهمة لتعزيزِ المواطَنة وإعلاء قِيَم التَّسامُح والتَّفاهُم بين النَّاس.

الحفــلُ الكَــريم!

لدينا اليوم نظريَّةٌ شرقيَّة إسلاميَّة، بديلةٌ لنظريَّة «صِراع الحضارات» تُسَمَّى بنظريَّةِ: «التَّعارُف الحضاري»، حَظِيَتْ في الآونةِ الأخيرة باهتمامِ فريقٍ من المفكِّرينَ والباحثينَ المتميِّزين، وقَدَّمُوها كردِّ فعلٍ مُناقضٍ لنظريَّةِ «الصِّراع الحضاري»، وهي تَعني الانفتاح على الآخَر، وتعرُّفَ كُلٍّ من الطَّرفين على الطَّرفِ الآخَر في إطارٍ من التَّعاونِ وتبادل المنافع، وتمكين الإنسان من أداء الأمانة التي ائتمنَهُ الله عليها، وهي: إعمارُ الأرضِ ومسؤوليته عن إصلاحِها وعدم الإفساد فيها بأيَّةِ صُورةٍ من صورِ الفساد.

وتستندُ هذه النَّظَريَّة إلى كلمةِ «التَّعارُف» الواردةُ في القرآنِ الكريم، كما تستندُ في إطارِها الكُلِّي إلى أُصُولٍ قُرآنيةٍ ثلاثة:

الأصلُ الأوَّل: هو: أنَّ اللهَ تعالى خَلَقَ عبادَه مُختلِفينَ في العِرْقِ واللَّونِ واللُّغةِ والدِّين، وخصائص أخرى غيرها، وأنَّهم سيبقون مختلفينَ في هذه الخصائص إلى آخرِ لحظةٍ في عُمْرِ هذا الكون وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود: 118].

الأصْلُ الثاني: هو: أنَّه تعالى كما خَلَــقَ الناس مختلفين؛ فلا مَفرَّ من أن يخلقهم أحرارًا فيما يعتقدون، وإلَّا لما تحقَّق الاختلاف الذي جعله سُنَّته في خَلْقِه.. وفي حَقِّ حُريَّةِ الاعتقاد نقرأُ قوله تعالى: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256].. وقوله مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [يونس: 99]، وقوله له أيضًا: لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22]..

الأصْلُ الثَّالث: إذا كان القرآن الكريم يُقرِّرُ الحقيقتَين السَّابقتَين، وهما: اختلاف الناس، وضمان حُرِّيَّاتهم فيما يعتقدون، فما هو نوع العلاقة بينهم فيما تُقرِّرُه فلسفة القرآن؟! ليس من سبيلٍ لهذه العلاقةِ إلَّا أنْ تكونَ «التعارُف»، الذي رَسَمَهُ الله تعالى إطارًا للمُعامَلات والعلاقات بين النَّاس.. وهذا هو ما نقرأه صريحًا في القرآنِ الكريم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13]، نعم! هو الأَصْلُ الثَّالث المسْتَدل منطقيًّا من الأصلين السابقين، ويمكن صياغته في قاعدة تقول: العلاقة المشروعة بين الناس في القرآن هي فقط علاقة «التَّعارُف والسَّلام»..

وهكذا تترتَّبُ القوانينُ القرآنيَّة لضبط العلاقات الإنسانيَّة في القرآنِ الكريمِ ترتُّبًا منطقيًّا لا مجالَ فيه لتأويلٍ أو تحريفٍ: الاختلافُ في الطَّبائعِ المُستلزِمُ لحرِّيَّةِ الاعتقادِ، المستلزمةِ بدَورِها لعَلاقةِ السَّلامِ بين النَّاسِ.

ومِن هذه النُّصُوص المؤسِّسةُ لمفهومِ الإسلام يتَّضحُ في جلاءٍ أنَّه دِينُ السَّلامِ، ودِينُ حُريَّة الاختلاف في العقيدة، والاختلاف في الرأي، وأنَّه ليـس صحـــيحًا ما يُقالُ وما يُروَّجُ -بينَ الحينِ والآخَرِ- مِن أنَّ سببَ مشروعيَّةِ القتالِ في الإسلامِ هو كُفْرُ الآخَرِينَ، فهذا كذبٌ محضٌ على الإسلامِ وعلى سيرةِ رسولِ الإسلامِ، حتى وإنْ تبنَّى هذا الافتراءَ بعضُ المُنتَسِبينَ إلى هذا الدِّينِ القائمِ على الحُجَّةِ والبُرهانِ، لا على الرِّيبةِ والبُهتانِ..

وفي الختامِ أقول:

إنَّني إذْ أُحَيِّي مَن اختَاروا لملتقانا هذا عنوانَ: الشَّرق والغرب.. من أجلِ التَّعايُش الإنسانيِّ.. فإنَّني أُقَدِّر الظَّرفَ الصَّعبَ الذي يَمُرُّ به عالمُنا المعاصر، وما يُواجِهه من تحدِّياتٍ تهدِّدُ الوجودَ الإنسانيَّ واستقرارَ الشُّعُوب، واسمَحُوا لي حضراتكم أن أتوجَّه من مِنْبَرِ هذا الملتقى التاريخي بنداءين: نداءٍ إلى علماءِ الأديانِ والمفكِّرين والإعلاميِّين بأنْ يبذلوا مزيدًا من الجهد على تربية النَّشء وتثقيف الشَّباب بمشتركاتِ الأديان وتحويلها إلى برامج عِلْميَّة وتربويَّة مُعاصرة، تُعَلِّم الشَّباب بأنَّ الحياةَ -في فلسفةِ الأديانِ- تتَّسِعُ للمخالف في الدِّينِ والعِرْقِ واللَّونِ واللِّسَان، وأنَّ تنوُّع الثقافات يُثري الحضارة الإنسانيَّة ويَبْني السَّلام المفقود.

ثُمَّ بنداءٍ إلى عُلماءِ الدِّين الإسلامي في العالم كلِّه على اختلافِ مذاهبهم وطوائفهم ومدارسهم، إلى المسارعة بعقدِ حوارٍ (إسلامي إسلامي) جاد، من أجلِ إقرار الوحدة والتَّقارُب والتَّعارف، حوارٍ من أجل الأُخوَّة الدينيَّة والإنسانية، تُنبَذُ فيه أسباب الفُرقة والفتنة والنِّزاع الطَّائفي على وجْهِ الخصوص، ويُركَّز فيه على نقاطِ الاتِّفاق والتَّلاقي، وأنْ يُنصَّ في قراراتِه على القاعدةِ الذهبيَّة التي تقول: يَعْذُرُ بعضُنا بعضًا فيما نختلفُ فيه، كما يُنصُّ فيه على وقفِ خطابات الكراهية المتبادلة، وأساليب الاستفزاز والتَّكفير، وضرورة تجاوز الصِّراعات التاريخيَّة والمعاصرة بكلِّ إشكالاتِها ورواسبها السَّيْئة، وهذه الدَّعوة إذ أتوجَّهُ بها إلى إخوتِنا من المسلمين الشِّيعة، فإنَّني على استعدادٍ، ومعي كبارُ علماء الأزهر ومجلس حكماء المسلمين، لعقدِ مثلِ هذا الاجتماع بقلوبٍ مفتوحةٍ وأيدٍ ممدودة للجلوسِ معًا على مائدة واحدة؛ لتجاوز صفحة الماضي وتعزيز الشأن الإسلامي ووحدة المواقف الإسلاميَّة، التي تتَّسِمُ بالواقعيَّة، وتُلبِّي مقاصد الإسلام وشريعته، وتُحرِّمُ على المسلمينَ الإصغاء لدعوات الفُرقة والشِّقاق، وأنْ يحذروا الوقوع في شَرَكِ العبث باستقرار الأوطان، واستغلال الدِّين في إثارةِ النَّعرات القوميَّة والمذهبيَّة، والتدخُّل في شؤونِ الدول والنَّيْلِ من سيادتها أو اغتصاب أراضيها.

وبهذه المناسبة ومن هذا الملتقى الذي يحتضنُ حوارَ الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني فإنني أضمُّ صوتي إلى صوتِ محبِّي الخير ممن يدعون إلى السَّلام ووقف الحرب الروسية الأوكرانية، وحقن دماء الأبرياء مِمَّن لا ناقةَ لهم ولا جَمَل في هذه المأساة، ورفع راية السَّلام بدلًا من راية الانتصار، والجلوس إلى دائرة الحوار والمفاوضات، كما أدعو إلى وقف الاقتِتال الدائر في شتَّى بقاع الأرض «لإعادة بناء جسور الحوار والتفاهم والثقة» من أجل استعادة السَّلام في عالم مُثخَن بالجراح؛ وحتى لا يكون البديل هو المزيد من مُعاناةِ الشُّعُوب الفقيرة، والمزيدُ من العواقب الوخيمة على الشَّرقِ والغربِ معًا.

شُكْرًا لِحُسْنِ اسْتِماعكُم..

والسَّلام عَليكُم وَرَحـْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه

كما ألقى قداسة بابا الفاتيكان كلمة قال فيها :

صاحب الجلالة،

أصحاب السمو الملكي،

أخي العزيز فضيلة الإمام الأكبر، الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف،

أخي العزيز قداسة البطريرك برثلماوس، البطريرك المسكوني،

السلطات الدينية والمدنية المحترمين،

سيداتي سادتي،

أحييكم تحية قلبية، وأشكركم على حفاوة الاستقبال وعلى عقد منتدى الحوار هذا، الذي تم تنظيمه تحت رعاية صاحب الجلالة، ملك البحرين. يتخذ هذا البلد اسمه من المياه المحيطة به: في الواقع، كلمة "البحرين" تذكر بـ "بحرين" اثنين. لنفكر في مياه البحر، التي تربط بين الأراضي وتوصل الناس بعضهم ببعض، وتربط بين الشعوب البعيدة. يقول المثل القديم "ما تقسمه الأرض، يوحده البحر". وكوكبنا الأرض، إذا نظرنا إليه من علُ، يبدو وكأنه بحر أزرق واسع، يربط بين شواطئ مختلفة. من السماء، يبدو أنها تذكرنا بأننا عائلة واحدة: لسنا جزرًا، بل نحن مجموعة واحدة كبيرة من الجزر. هكذا يريدنا الإله العلي. وهذا البلد، مجموعة جزر مكونة من أكثر من ثلاثين جزيرة، يمكن أن يكون رمزا لهذه الإرادة الإلهية.

ومع ذلك، فنحن نعيش في أوقات فيها البشرية، المرتبطة بعضها مع بعض كما لم تكن من قبل، تبدو أكثر انقساما، وغير متحدة. يمكن أن يساعدنا اسم "البحرين في متابعة تفكيرنا: "البحران" اللذان يشير إليهما هما المياه العذبة في ينابيعها الجوفية، ومياه الخليج المالحة. كذلك، نجد أنفسنا اليوم أمام بحرين متعارضين في مذاقهما: من ناحية، العيش المشترك، بحر هادئ وعذب، ومن ناحية أخرى، البحر المرير من اللامبالاة، وتشوبه العلاقات، التي تثيرها رياح الحرب، وأمواجه المدمرة والمضطربة بشكل متزايد، والتي تهدد بهلاك الجميع.

وللأسف، الشرق والغرب يشبهان بصورة متزايدة بحرين متخاصمين. لكن، نحن هنا معا لأننا عازمون على الإبحار في البحر نفسه، واختيارنا هو طريق اللقاء، بدلا من طريق المواجهة، وطريق الحوار الذي يشير إليه هذا المنتدى: "الشرق والغرب من أجل العيش الإنساني معا".

بعد حربين عالميتين مروعتين، وبعد حرب باردة ظل العالم فيها حابسنا أنفاسه، مدة عشرات السنين، وسط صراعات مدمرة في كل جزء من العالم، وبين أصوات الاتهام والتهديد والإدانة، ما زلنا نجد أنفسنا على حافة الهاوية في توازن هشت، ولا نريد أن نغرق. نحن أمام وضع تناقضات غريبة: من جهة، غالبية سكان العالم يجدون أنفسهم موحدين بنفس الصعوبات، ويعانون، أزمات خطيرة، في الغذاء والبيئة والوباء، بالإضافة إلى العبث المتزايد بكوكبنا، ومن ناحية أخرى، عدد قليل من أصحاب السلطان يتركزون في صراع حازم من أجل المصالح الخاصة، يحيون اللغات القديمة (لغات الحرب)، ويعيدون رسم مناطق النفوذ والكتل المتعارضة.

وهكذا يبدو أننا نشاهد سيناريو مأساوي وكأنه وقوع في "الطفولة: في حديقة الإنسانية، بدلا من أن نعتني ونهتم بالكل، نلعب بالنار، وبالصواريخ والقذائف، وبأسلحة تسبب البكاء والموت، وتغطي البيت المشترك بالرماد والكراهية.

هذه العواقب المريرة: إن في زيادة التناقضات، ولم تعد إلى أن نكتشف من جديد مقدرتنا على التفاهم، وإن استمررنا حازمين لفرض نماذجنا ورؤانا الاستبدادية والإمبريالية والقومية والشعبوية، وإن كنا لا نهتم بثقافة الآخر، وإن لم نستمع إلى صرخة عامة الناس وصوت الفقراء، وإن لم نتوقف عن التمييز، على طريقة المانوية، بين صالح وشرير، وإن لم نجتهد في أن نفهم بعضنا بعضا ولم نتعاون لخير الجميع. هذه الخيارات موجودة أمامنا. لأنه في عالم معولم لا يمكن أن نتقدم إلا إذا وضعنا أيدينا على المجاديف معا، لأننا إن أبحرنا وحدنا ستتقاذفنا أمواج البحر.

في بحر الصراعات العاصف، لنضع أمام أعيننا "وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك"، ففيه أمل للقاء مثمر بين الغرب والشرق، مفيد لشفاء الأمراض فيهما. نحن هنا، مؤمنون بالله وبالإخوة، لنرفض "الفكر العازل"، وطريقة النظر إلى الواقع التي تتجاهل بحر البشرية الواحد، لتركز فقط على التيارات الخاصة فيه. نريد تسوية الخلافات بين الشرق والغرب من أجل خير الجميع، من دون أن نغفل الانتباه إلى فجوة أخرى أخذة في النمو بثبات وبصورة مأسوية، وهي الفجوة بين الشمال والجنوب في العالم.

ظهور الصراعات يجب ألا يجعلنا نغفل عن المآسي الكامنة في الإنسانية، مثل كارثة عدم المساواة، حيث يختبر معظم الناس الذين يسكنون الأرض ظلما غير مسبوق، ومصيبة الجوع المخجلة، وكارثة تغير المناخ، نتيجة إهمال العناية بالبيت المشترك.

حول هذه القضايا، التي تمت مناقشتها في هذه الأيام، قادة الديانات لا يمكن ألا يلتزموا وألا يقدموا المثل الصالح. لنا دور محدد، وهذا المنتدى يوفر لنا فرصة أخرى في هذا الاتجاه. إنه واجبنا أن نشجع الإنسانية ونساعدها على الإبحار معا، فهي في الوقت نفسه مترابطة، وبقدر ما هي مترابطة فإنها متباعدة بعضها عن بعض.

لذلك أود أن أحدد ثلاثة تحديات نابعة من وثيقة الأخوة الإنسانية وإعلان مملكة البحرين، الذي كان موضوع تفكيرنا في هذه الأيام. إنها الصلاة والتربية والعمل.

أولا، الصلاة التي تلمس قلب الإنسان. في الواقع، الماسي التي نعانيها والتمزقات الخطيرة التي نختبرها، "وعدم التوازنات التي يعاني منها العالم المعاصر مرتبط بعدم التوازن العميق المتأصل في قلب الإنسان" (دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء، 10). فالخطر الأكبر لا يكمن في الأشياء، أو في الوقائع المادية، أو في المنظمات، بل في ميل الإنسان إلى الانغلاق على جوهر كيانه، على "الأنا"، وعلى جماعته، ومصالحه السخيفة. هذا الميل ليس عيبا في عصرنا فقط، فقد وجد منذ أن كان الإنسان إنسانا، وبعون الله يمكن علاجه (راجع رسالة بابوية عامة، كلنا إخوة - Fratelli tutti ، 166)

لهذا فإن الصلاة وانفتاح القلب أمام العلي أمر أساسي لتطهير أنفسنا من الأنانية، والانغلاق، والمرجعية الذاتية، والأكاذيب والظلم. الذي يصلي ينال السلام في قلبه ولا يسعه إلا أن يكون شاهدا له ورسولا، وداعيا إليه، بمثاله أولا، رفقاءه حتى لا يصيروا رهائن لوثنية تحصر الإنسان في ما يبيعه أو يشتريه أو في ما يتلهى به. عليه أن يدعوهم إلى أن يكتشفوا من جديد الكرامة اللانهائية المطبوعة في كل واحد منا. الإنسان المتدين، إنسان السلام، هو الذي يسير مع الآخرين على الأرض، ويدعوهم بلطف واحترام إلى أن يرفعوا نظرهم إلى السماء. ويحمل في صلاته، مثل البخور الذي يرتفع إلى العلي (راجع مزمور 141، 2)، جهود الجميع وشدائدهم.

لكن لكي يحصل هذا الأمر، هناك مقدمة لا بد منها، وهي: الحرية الدينية. يقول إعلان مملكة البحرين إن "الله هدانا إلى عطيته الإلهية، عطية حرية الاختيار"، "فلا يمكن لأي شكل من أشكال الإكراه الديني أن يقود الشخص إلى علاقة لها معنى مع الله". كل نوع من الإكراه يتنافى مع جلال الله وقدرته تعالى، لأن الله لم يسلم العالم إلى عبيد، بل إلى مخلوقات حرة، يحترمها احتراما كاملا. لذلك، لنلتزم، حتى تكون حرية المخلوقات مرآة لحرية الخالق العظمى، وحتى تكون أماكن العبادة محمية ومحترمة، دائما وفي كل مكان، وتكون الصلاة محمية لا يوضع أمامها أي عائق. ولا يكفي أن نمنح التصاريح والاعتراف بحرية العبادة، بل من الضروري أن نصل إلى تحقيق الحرية الدينية الحقيقية. وليس كل مجتمع فقط، بل كل معتقد مدعو إلى أن يتحقق من نفسه في ذلك. إنه مدعو إلى أن يسأل نفسه هل يفرض قيودا من الخارج على خلائق الله، أم يحررها من الداخل؟ هل يساعد الإنسان على أن ينبذ التصلب، والانغلاق والعنف، وهل يزيد في المؤمنين الحرية الحقيقية، التي لا تقوم بأن تفعل ما يبدو لك ويسرك، بل أن نُعد أنفسنا لعمل الخير الذي خلقنا الله له.

تحدي الصلاة يخص القلب. والتحدي الثاني، التربية، يخص أساسا عقل الإنسان. يقول إعلان مملكة البحرين إن "الجهل هو عدو السلام". هذا صحيح، لأنه حيث تنقص فرص التعليم، يزداد التطرف وتتجذر الأصولية. وإن كان الجهل عدو السلام، فإن التربية صديقة للتنمية، شرط أن تكون تعليما يليق حقا بالإنسان، الكائن الديناميكي وذي العلاقات: إذن لا يكن التعليم تزمتا ولونا واحدا منغلقا، بل ليكن منفتحا على التحديات وحساسا للتغيرات الثقافية، وليس ذاتي المرجعية عازلا، بل متنبها لتاريخ وثقافة الآخرين، وليس جامدا بل دائما في حالة بحث، لكي يشمل جوانب مختلفة وأساسية للإنسانية الواحدة التي ننتمي إليها. وهذا يسمح لنا، خصوصا، بأن ندخل إلى قلب المشاكل، دون أن ندعي أن لدينا الحل، ودون أن نحل المشاكل المعقدة بالقول إنها بسيطة، بل نكون مستعدين لمواجهة الأزمة دون أن نستسلم لمنطق الصراع. في الواقع، لا يليق بالعقل البشري أن يسمح لمبررات القوة بأن تسود على قوة العقل، ولا يستخدم أساليب الماضي لحل المسائل الحالية، ولا يطبق مخططات تقنية أو ما يلائم الساعة على تاريخ الإنسان وثقافته. هذا يتطلب منا أن نتساءل، وأن نضع أنفسنا في أزمة، وأن نعرف كيف نحاور بصبر واحترام، وبروح الاستماع، وأن نتعلم تاريخ وثقافة الآخرين. هكذا يتم تربية العقل البشري، وتغذية التفاهم المتبادل. لأنه لا يكفي أن نقول إننا متسامحون، بل علينا حقا أن نفسح المجال للآخر، ونعطيه الحقوق والفرص. إنها عقلية تبدأ بالتربية، والأديان مدعوة إلى دعمها.

على وجه التحديد، أود أن أؤكد على ثلاثة أمور تربوية ملحة. أولا، الاعتراف بالمرأة في المجال العام: "في التعليم والعمل وممارسة حقوقها الاجتماعية السياسية" (راجع وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك). التربية في هذا المجال، كما في المجالات الأخرى، هي الطريق من أجل التحرر من الموروثات التاريخية والاجتماعية المناقضة لروح التضامن الأخوي، الذي يجب أن يتميز به من يعبد الله ويحب القريب.

ثانيا، "حماية حقوق الأطفال الأساسية" (المرجع نفسه)، حتى يكبروا وقد تعلموا، ووجدوا المساعدة اللازمة، والمرافقة، ولا يكون مصيرهم في أنياب الجوع ولسعات العنف. لنرب، ولنرب أنفسنا، لننظر إلى الأزمات، والمشاكل، والحروب، بعيون الأطفال: ليس الطفولة الساذجة، بل بالحكمة بعيدة النظر، لأنه إن فكرنا فيهم فقط، سيظهر لنا التقدم في البراءة، بدل الربح، وسنساهم في بناء مستقبل يليق بالإنسان.

التربية التي تبدأ في خلية العائلة، تستمر في سياق الجماعة، والقرية أو المدينة. لهذا، ثالثا، أود أن أؤكد على التربية على المواطنة، وعلى العيش معا، في الاحترام وضمن القوانين. وخصوصا، على أهمية "مفهوم المواطنة" نفسها، الذي "يقوم على المساواة في الواجبات والحقوق. لذا يجب العمل على ترسيخ مفهوم المواطنة الكاملة في مجتمعاتنا، والتخلي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح «الأقليات» الذي يحمل في طياته الإحساس بالعزلة والدونية، ويمهد لبذور الفتن والشقاق، ويلغي استحقاقات وحقوق بعض المواطنين الدينية والمدنية، ويؤدي إلى ممارسة التمييز ضدهم" (المرجع نفسه).

وهكذا نأتي إلى آخر تحد من التحديات الثلاثة، وهو العمل، ويمكننا أن نقول قوى الإنسان. يقول إعلان مملكة البحرين إن "الدعوة إلى الكراهية والعنف والفتنة، هي تدنيس لاسم الله". يرفض المتدين هذا الكلام، دون أي تبرير. يقول بقوة "لا" للحرب التي هي تجديف على الله، واستخدام العنف. ويترجم هذا الـ "لا"، بصوة متسقة في العمل. لأنه لا يكفي أن نقول إن هذه الديانة مسالمة، بل من الضروري أن ندين ونعزل العنيفين الذين يسيئون إلى اسم الدين. ولا يكفي حتى أن نبتعد عن التعصب والتطرف، بل يجب العمل في الاتجاه المعاكس. "لذلك يجب وقف دعم الحركات الإرهابية بالمال أو بالسلاح أو التخطيط أو التبرير، أو بتوفير الغطاء الإعلامي لها، ويجب اعتبار ذلك من الجرائم الدولية التي تهدد الأمن والسلم العالميين، ويجب إدانة ذلك التطرف بكل أشكاله وصوره" (وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك).

الإنسان المتدين، رجل السلام، يعارض أيضا السباق إلى التسلح، وشؤون الحرب، وسوق الموت. لا يدعم "التحالفات ضد أحد ما"، بل يدعم طرق اللقاء مع الجميع: ودون الاستسلام للنسبية أو لتوفيقية المعتقدات من أي نوع، يسلك طريقا واحدا فقط، هو طريق الأخوة والحوار والسلام. هذه هي أجوبته عندما يقول "نعم". أيها الأصدقاء الأعزاء، لنسلك هذا الطريق: ولنفتح قلبنا لأخينا، ولنتقدم في طريق المعرفة المتبادلة. لنوثق الروابط بيننا، من دون ازدواجية ومن دون خوف، باسم الخالق الذي وضعنا معا في العالم حراسا على الإخوة والأخوات.

وإن تفاوضت قوى مختلفة فيما بينها من أجل المصالح، المال، واستراتيجيات السلطة، لنبين نحن أن هناك طريقا آخر ممكن للقاء. وهو ممكن وضروري، لأن القوة والسلاح والمال لن يصنعوا مستقبل سلام إطلاقا. لنلتق إذن من أجل خير الإنسان وباسم من أحب الإنسان، الذي اسمه سلام. لنشجع المبادرات العملية، حتى تكون مسيرة الأديان الكبرى دائما فعالة وثابتة أكثر، لتكن ضمير سلام للعالم!

الخالق يدعونا إلى العمل، وخاصة لصالح الكثير الكثير من مخلوقاته الذين ما زالوا لا يجدون مكانا كافيا في أجندات الأقوياء: الفقراء، والذين لم يولدوا بعد، وكبار السن، والمرضى، والمهاجرون... إن كنا نحن، الذين نؤمن بإله الرحمة، لا نستمع إلى الفقراء، ولا نكون صوتا لمن لا صوت لهم، فمن يفعل ذلك؟ لنكن إلى جانبهم، ولنعمل على مساعدة الإنسان الجريح والواقع في الشدة! إن فعلنا ذلك، سنجذب بركة الله تعالى على العالم. لينر خطواتنا ويوحد قلوبنا وعقولنا وقوانا (راجع مرقس 12، 30)، حتى تكمل عبادتنا الله بمحبتنا الأخوية والعملية للغير: لكي نكون معا أنبياء العيش معا، وصناع الوحدة، وبناة السلام.