في خط زمني قصير، بين فبراير ومارس، أعلنت منظمة الصحة العالمية اكتشاف إصابة طفلة أسترالية (30 شهراً)، بإنفلونزا الطيور من نوع "H5N1"، قبل أن تتعافى لاحقاً، ثم قضى رجل مكسيكي جراء إصابته بسلالة أخرى من المرض تُعرف باسم "H5N2".

أثارت هذه الوقائع التساؤلات حول ماهية إنفلونزا الطيور، وسلالاتها، وكيفية انتقال العدوى من الطيور إلى الإنسان، وما إذا كانت العدوى يمكن أن تنتقل من إنسان إلى آخر.

هذه الأسئلة، وغيرها، كانت موضوع أبحاث نشرها الدكتور راجح الشيشيني، الباحث في مجال الفيروسات بالمركز القومي للبحوث في مصر، والمتخصص تحديداً في إنفلونزا الطيور، والذي تركز أبحاثه، المنشورة في دوريات مرموقة، على تتبع ورسم خرائط السلالات المختلفة من إنفلونزا الطيور حول العالم.

نشأة إنفلونزا الطيور
ظهر أول وصف لإنفلونزا الطيور عام 1878 في شمال إيطاليا، عندما تم تعريفها بأنها مرض معدٍ يصيب الدواجن، ويرتبط بارتفاع معدل نفوق الطيور، وأطلق المزارعون على ذلك المرض "طاعون الطيور"، وفي خمسينيات القرن الماضي، درس العلماء بدقة مجموعة من الفيروسات لفهم هيكلها وسلوكها.

وكان من بين العينات التي بحثها العلماء سلالة من الفيروس الذي تسبب في تفشي "طاعون الطيور" تاريخياً، ليكتشفوا أنه يمكن تصنيف هذه الفيروسات إلى أنواع فرعية بناءً على اثنين من البروتينات السطحية، هما: الهيماجلوتينينH، والنورامينيداز N.

يقول الشيشيني لـ"الشرق"، إن فيروس إنفلونزا الطيور يملك العديد من الجينات، إلا أن أكثر الأجزاء المؤثرة في عملية العدوى هما البروتينان السطحيان H وN، ويملك فيروس إنفلونزا الطيور 16 نوعاً من بروتينات الهيماجلوتينين كما تملك الثدييات –الخفافيش تحديداً- نوعين من ذلك البروتين، ولدى إنفلونزا الطيور 9 أنواع من بروتينات النورامينيداز.

ويتابع: من هنا، جاءت تسمية الأنواع المنتشرة في العالم؛ فالنوع الذي أصيبت به الطفلة الأسترالية "H5N1" هو في الحقيقة فيروس يتكون من بروتين الهيماجلوتينين رقم 5، وبروتين النورامينيداز رقم 1، في حين أن النوع الذي أصيب به الرجل المكسيكي "H5N2" فيروس يتكون من بروتين الهيماجلوتينين رقم 5 وبروتين النورامينيداز رقم 2.

لكن كيف تتكون تلك السلالات؟ وما هي الاختلافات بينها؟، عندما يُصاب الطائر الواحد بنوعين فرعيين من الفيروسات، يمكن أن تحدث عملية تُعرف بتبادل الجينات؛ حيث تمتزج المادة الوراثية لسلالتين مختلفتين من الفيروس -عادة من نفس النوع- لتشكيل سلالة جديدة تحتوي على خصائص الفيروسين الأصليين.

هذه العملية شائعة في الفيروسات ذات الجينومات المجزأة، مثل فيروس الإنفلونزا؛ فالمادة الوراثية لفيروس الإنفلونزا تتكون من أجزاء متعددة، ومنفصلة بدلاً من شريط واحد متصل.

وعندما تصيب سلالتان مختلفتان من فيروسات الإنفلونزا نفس الخلية المضيفة، يمكن لهذه الجينومات المجزأة أن تتداخل وتتبادل المواد الوراثية.. يحدث هذا التبادل في الإنسان والحيوان على حد سواء، وخاصة عندما تكون هناك سلالات مختلفة من الفيروس منتشرة.

وعن ذلك، يقول الشيشيني: "خلال عملية إعادة الترتيب، يمكن لأجزاء من سلالة واحدة أن تندمج مع أجزاء من سلالة أخرى، ما يؤدي إلى إنشاء سلالات جديدة"، وهذا التداخل الجيني يمكن أن يسفر عن ظهور سلالات فيروسية جديدة بخصائص مختلفة.

أنواع فيروس إنفلونزا الطيور
قسَّم العلماء إنفلونزا الطيور إلى فئتين؛ إنفلونزا الطيور شديدة الإمراض، وإنفلونزا الطيور منخفضة الإمراض، وتتميز الفئة الأولى بخطورتها، وتأثيرها على الدواجن والمخاطر المحتملة على البشر.

ويؤدي مرض إنفلونزا الطيور شديدة الإمراض، الذي يحدث غالباً بسبب أنواع فرعية معينة من فيروس H5، وH7، إلى مرض شديد، وارتفاع معدلات الوفيات في الدواجن المنزلية، مع أعراض تشمل ضيق التنفس، والعلامات العصبية، والموت السريع، مما يستلزم إعداماً جماعياً للدواجن، للسيطرة على تفشي المرض، وتقليل الخسائر الاقتصادية.

كما يمكن لسلالات معينة منها مثل H5N1، وH7N9 أن تصيب البشر أيضاً، ما يسبب مرضاً شديداً وأحياناً الوفاة، ما يشكل مخاطر كبيرة على الصحة العامة.

وعلى النقيض؛ تسبب إنفلونزا الطيور منخفضة الإمراض أعراضاً خفيفة، أو لا تظهر على الإطلاق في الطيور، رغم أنه يمكن أن يؤثر على الإنتاجية. كما تعد أقل خطورة على صحة الإنسان مقارنة بالفئة الأولى، وعادةً ما تسبب أعراضاً تنفسية خفيفة.

H5N1.. الظهور الأول
في عام 1996، تم التعرف على فيروس إنفلونزا الطيور شديد الإمراض H5N1، لأول مرة في الطيور المنزلية في هونج كونج.

وبعد عام واحد، تسببت تلك السلالة في تفشي المرض بشكل كبير بعد أن أصاب الفيروس 18 شخصاً، وأدى إلى وفاة 6 أشخاص في هونج كونج، وكانت هذه أول حالة معروفة ينتقل فيها الفيروس مباشرة من الطيور إلى البشر، واستمر هذا الفيروس في التسبب في أكثر من 860 إصابة بشرية بمعدل وفيات يزيد عن 50%.

وتُصيب جميع فيروسات الإنفلونزا الطيور فقط في الأساس، إلا أنها تمكنت عبر الزمن من تطوير آلية تُمكنها من الانتقال للإنسان. وهنا، يقول الشيشيني: "تصيب فيروسات الإنفلونزا الطيور عن طريق الارتباط بمستقبل يُسمى قدرة فيروسات حمض السياليك ألفا 2-3".

ويلعب بروتين الهيماجلوتينين الموجود على سطح فيروس الإنفلونزا دوراً حاسماً في الارتباط بالخلايا المضيفة؛ إذ تحتوي فيروسات إنفلونزا الطيور عادةً على بروتين الهيماجلوتينين الذي يرتبط، بشكل تفضيلي، بمستقبلات حمض السياليك المرتبطة بـ ألفا 2-3، لكن، ولكي يصيب الفيروس البشر بشكل أكثر فاعلية، يمكن للطفرات في بروتين الهيماجلوتينين أن تغير تفضيله المرتبط بمستقبلات حمض السياليك المرتبطة بـألفا 2-6.


في الجهاز التنفسي السفلي للبشر، توجد مجموعة صغيرة من مستقبلات حمض السياليك المرتبطة بـ ألفا 2-3 -الشبيهة بتلك الموجودة لدى الطيور- والتي بسببها تنتقل الإصابة من الطيور إلى الإنسان.

"لحسن الحظ، فإن تلك المستقبلات توجد في الجهاز التنفسي السفلي، ما يجعل العدوى غير قادرة على الانتقال من إنسان إلى إنسان" كما يقول الشيشيني، مشيراً إلى أن التهديد الأكبر يكمن في احتمالية حدوث طفرة تسمح للفيروس بالارتباط بمستقبلات حمض السياليك المرتبطة بـألفا 2-6، والتي تنتشر في الجهاز التنفسي العلوي.

وإذا ارتبط الفيروس بهذه المستقبلات، فسيحدث وباء أشد بكثير من وباء كورونا المستجد؛ إذ سيتمكن الفيروس وقتها من الانتقال من إنسان إلى إنسان، ويقترب معدل الوفيات المرتبطة بفيروس إنفلونزا الطيور من 50% مقارنة بمعدل وفيات فيروس كورونا المستجد، والتي لم تتجاوز عالمياً نحو 1% على حد قول الشيشيني.

وباء المستقبل
ولا يستبعد الدكتور راجح الشيشيني احتمالية حدوث وباء مستقبلي بسبب إنفلونزا الطيور؛ فجائحة الإنفلونزا التي شهدها عام 1918، والتي يشار إليها غالباً باسم "الإنفلونزا الإسبانية"، كان سببها فيروس إنفلونزا الطيور من نوع H1N1.

ولا يزال ذلك الوباء أحد أكثر الأوبئة فتكاً في تاريخ البشرية، حيث أصاب حوالي ثلث سكان العالم في ذلك الوقت، وأدى إلى وفاة ما يقدر بنحو 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم.

كان للوباء تأثير مدمر، وخاصة على الشباب، وانتشر بسرعة في جميع أنحاء العالم بسبب زيادة السفر العالمي المرتبط بالحرب العالمية الأولى. وقد ساهمت شدة الفيروس، إلى جانب نقص العلاجات واللقاحات الفعالة، في ارتفاع معدل الوفيات.

ويقول الشيشيني إن تلك الجائحة قد يكون سببها في الأساس فيروس إنفلونزا يُصيب الطيور أصلاً "ثم تطور، وتكيَّف ليصيب الإنسان"، فعلى الرغم من أن الأصل الدقيق للفيروس الذي تسبب في جائحة الإنفلونزا في عام 1918 موضوعاً للنقاش والتحقيق العلمي، إلا أن الأبحاث الحديثة ترجح نشأته في الطيور.

جائحة عام 1918
وحددت العديد من الدراسات أوجه التشابه بين فيروس جائحة عام 1918 وفيروسات إنفلونزا الطيور، وخاصة تلك الأنواع الفرعية H1 وH2 وN1. من المفترض أن الفيروس نشأ في الطيور، ربما من خلال إعادة تشكيل فيروسات إنفلونزا الطيور، ثم تكيف مع البشر، ما أدى إلى انتقال مستمر من إنسان إلى إنسان.

كما أن إحدى النظريات السائدة هي أن فيروس جائحة عام 1918 نشأ في الطيور الداجنة، أو البرية، ربما من خلال انتقاله المباشر إلى البشر، أو من خلال أنواع مضيفة وسيطة. تم تداول الدواجن على نطاق واسع خلال الحرب العالمية الأولى، كما كان من الممكن أن تكون حركة الطيور عبر القارات قد سهّلت انتشار الفيروس.

غير أن هناك بارقة أمل؛ كما يقول الدكتور راجح الشيشيني، فعلى عكس نقص الأدوية والعلاجات واللقاحات في عام 1918، توجد الآن مجموعة من اللقاحات ومضادات الفيروسات التي يُمكنها احتواء الأنواع المعروفة من فيروس الإنفلونزا "غير أن الخطر يكمن في عدم قدرتنا على التنبؤ بسلوك الفيروس وقدرته على التكيف.. ببساطة قد يكتسب الفيروس صفات جديدة تجعله يراوغ ما نملكه من علاجات ولقاحات.. وقتها قد تحدث كارثة.. كارثة لن تستطيع الأنظمة الصحية تحملها".