أيّ غرفة في أيّ سلطة تشريعية في أيّ دولة بها نظام برلماني لا يمكنها أن تكون ندّاً تشريعياً ورقابياً على السلطة التنفيذية إلا بوجود تكتل رقمي يستطيع أن يقول لا أو نعم للسلطة التنفيذية، ويستطيع أن يفعّل أدواته الرقابية عليها بعدد الأصوات وليس بقوة الأسئلة أو بنوعيتها، ووفقاً للائحة الداخلية إن كان يتطلب الأمر في التصويت «النص زائد واحد»، أو يتطلب الأغلبية أي الثلثين، فالعنصر الفاعل هنا هو «العدد».

هذه النسبة لا تتحقق إلا بوجود كتلة تشريعية متماسكة سواء أكانت تلك الكتلة تتبع حزباً سياسياً «جمعية» قبل الانتخابات ثم دخلت المجلس ولها قيادة مركزية تعمل على توحيد أصوات تابعيها، أو تشكلت داخل البرلمان وبقيت متماسكة، وهنا تكمن قصة التأثير والتمثيل الشعبي.

كان عندنا أحزاب «جمعيات» سياسية، لكنها كانت تجربة فاشلة بامتياز، إذ دخلت قوى كانت قبل الانتخابات تعمل على إسقاط النظام، وبقيت بعد دخولها البرلمان تعمل تحت تأثير ذات الهدف، وهذه ليست استراتيجية سياسية لا تتفق مع العمل البرلماني والندية للحكومة، فقد كانت طوال الوقت تعمل على أنها ند للحكم، وهناك فرق السماء والأرض بين الاثنين، وإنما استغلت تلك الأحزاب جميع الأدوات النيابية وغير النيابية المتاحة في الإصلاح السياسي لتفعيل ذلك الهدف؛ وهو إسقاط النظام.

فكانت الفصول التشريعية التي دخلتها تلك الأحزاب صراعاً تجاوز الإطار الوطني، فأصبحت الأدوات مُسَخّرة لخدمة الأحزاب لا لخدمة الشعب البحريني، فشهدنا استجوابات بنَفَس طائفي، وأسئلة برلمانية بنفَس طائفي، وصحافة بنفس طائفي تؤيدها، حتى جاء 2011، فسقطت كل أوراق التوت وظهرت الوجوه على حقيقتها كاملة بعد أن كانت تتستر خلف العمل السياسي المؤطر، وظنت تلك الأحزاب أنه ما عادت هناك حاجة للإطار السياسي المشروع، فوقفت على المنصة تعلن بكل وقاحة «باقون حتى يسقط النظام».

من بعد انكشافها وتشتتها وضياعها حين فشل مشروعها المتعاون مع دول أجنبية، لم تتشكل جمعيات لها ثقل عددي، وعليه لم يدخل الغرفة المنتخبة أي تكتل حزبي يتحرك بقيادة مركزية، مما شتت الجهود داخل البرلمان، وذلك حلم أي سلطة تنفيذية في أي دولة ديمقراطية في العالم، إذ يريحها ويقلل جهودها المطلوبة لتصويتات تتفق مع توجهاتها، فلا تعتقد أن هناك حكومة تتمنى سلطة تشريعية موحدة ترهقها برأي مختلف وبرقابة مشددة.

وهنا تكمن اللعبة الديمقراطية العالمية، فجميع الدول الديمقراطية التي تمتلك نظاماً برلمانياً يكون فيها هدف الحكومات تشتيت أصوات النواب، فالأمر مشروع ضمن اللعبة الديمقراطية مع الأسف حتى إن العديد من الدول تتجاوز فيها الحكومات اللعب المشروع إلى اللعب الممنوع وكل حكومة وشطارتها في تشتيت الأصوات دون أن تمسك عليها شيئاً ممنوعاً!!

بعض الحكومات تبتز أحزاباً وبعضها تشتري أصواتاً وكلنا سمع عن النواب «القبيضة»، وبعضها تستميل أفراداً من الأحزاب إلى جانبها وتشتت كتلاً معارضة وهكذا يستمر اللعب.

خلاصة القول ألا تحلم أي أصوات شعبية أن تكون هناك حكومة مهادنة تبقى متفرجة على تكتل وتقوية الأحزاب، اللعبة الديمقراطية أتاحت للسلطات التنفيذية هذا النوع من الصراع السياسي، و«الرك» كما يقال، أو الغلبة على نجاح أي كتلة في «التماسك» خارج البرلمان أو داخله في القدرة على الصمود أمام محاولات الاختراق، وهذا له استحقاقات لم تتوفر إلى الآن مقوماتها في البحرين مع الأسف.

إلى اليوم ليس لدينا شخصية «كاريزمية» حاصلة على التفاف شعبي، قادرة على تشكيل حزب خارج البرلمان وكتلة داخله.

شخصية يلتف حولها الناس لا بغرض دخول الجنة كما كان سابقاً، إنما بغرض الندية مع السلطة التنفيذية والعمل لصالح الدولة وقوتها في ذات الوقت، هذه واحدة من أهم نقاط الضعف البرلماني.

كلما كان هناك مستقلون كان هناك برلمان سهل المماشاة مع القرارات الحكومية بصوابها وبخطئها، هذه قاعدة مسلمات برلمانية مثلما قلنا تشكل برلماناً هو حلم أي سلطة تنفيذية في أي دولة كانت.

إلى أن توجد شخصية قادرة على خلق تجمع متماسك وقادرة على تقديم بدائل عن القرارات الحكومية بجمعها كفاءات ورجال دولة معها، ولها القدرة على تقديم طرح مختلف عن التوجه الحكومي كسياسة تنفيذية ولها نفس طويل يستطيع أن يصمد أمام جهود السلطة التنفيذية لتفكيك كتلته، ولها قدرة على مقاومة الإغواءات الأجنبية وصدها، فإننا سنظل أمام برلمان ضعيف سهل الانصياع.

هذا ليس قدحاً في المرشحين ووطنيتهم إطلاقاً، إنما هو عرض لواقع العمل النيابي الذي يتطلب «عدداً» لا يتوفر إلا بالكتلة ذات القيادة المركزية، ولا تنفعه حتى «الأسود» المنفردة!!

وللعلم، أحزاب سياسية معروفة في دول غربية ما تأسست إلا داخل البرلمان وأعضاؤها دخلوا مستقلين، وانتهى الفصل التشريعي وهم كتلة موحدة، وبقيت أحزابهم لعقود متماسكة حتى بعد انتهاء الفصول التشريعية خاصة بعد أن اكتسب أعضاؤها خبرة في التعاطي مع السلطة التنفيذية وخبرة في فهم اللوائح الداخلية وأدواتها البرلمانية.