لا يُمكن وصف الراحة التي نشعر بها حينما تطلّ علينا الشمس بكامل كبريائها المتدفق من بين نهار ضبابي طويل. تخلع عنها رداءها الفخم باستحياء كأنها تخبرنا: هيّا تعالوا ها أنا جئتكم من الأفق البعيد. يتفكّك ضوؤها فوق الأشياء المحيطة وتضيء ما حولنا، ويظهر كلّ شيء على طبيعته البِكر، ولنتحرّر من الشعور بالثِقل والخَواء اللذين لازمانا وألزمانا بالاعتزال.

أتساءل، أهناك احتمالية للقول إن «حياتنا الجديدة» بكلّ إغراءاتها واستحواذاتها المُفرطة فيها بعضٌ من الشمس عندما تُعرِّي الأشياء وتجعلها تنطق، وتفضح الأسرار القابعة وراء الرّغبات الهائمة ولا تجد من يسأل عنها؟ هذه الحياة المُدهشة التي أتعبتنا ونحن نركض خلف زينتها بلهفة مثل امرأة متبرّجة بكامل أناقتها المُفتعَلة وتحمل من الجاذبية ما يكفي لنكون أسرى عندها غير أنها تظلّ عنيفةً في طبعها فاضحةً في سلوكها لا تُستأمَنُ على سِرٍّ أو لقاء.

نحاول يائسين أن نروّض حياتنا الطاغية هذه لنطفئ فينا تناقضاتها وانفعالاتها المجنونة وكذلك شذوذها المدمِّر أحياناً، والمُلهِم أحياناً أُخرى، وإن كانت في كلّ مرّة تأبى السكون وتدنو نحو الهِياج والتفلُّت كحصان جامح في برِّيَّة. عجيبٌ أمرها هذه الحياة التي لا تَكنُّ ولا تنام، ونحن كذلك تُسهِّدنا بتصرّفاتها الحمقى في مرّات وهدوئها المُريب في مرّات ثانية.

هي مليئة بالانفجارات النفسيّة والانكسارات الروحية، نحاول أن نحسِم بعضاً من جوانبها لصالحنا إلا أننا نعجز في كلّ مرّة ولا نَقدِر أن نطوّعها مهما بلغنا من البراعة في التكيُّف والتماهي مع سحرها الزائف المتغلغل أكثر عمقاً في دواخلنا البعيدة، وفي كلٍّ تضربُنا بمهاميزها لتُثير فينا رغبة الفُضول والاكتشاف والتخيُّل.

بصراحة هي مُتعة عسيرة على التعبير، ولذّة عارمة تتشكَّل في النفس وتمنحنا مِزاجاً خاصاً غير مُتوقع. هي مِثلُ سُوق عِطَارة تُدهشك النّكهات والروائح الجريئة فيه، الأصباغ والألوان الماكرة، لابد أن يَعلق بك شيءٌ من هذه المخاليط الفضولية، فيها ما يحرض، ويقحم، بلا هوادة، رغم حاجتنا الماسّة للتوبة من تبعاتها المدمِّرة.

هذه الحياة تعتلي عرشها مزهوةً في كلّ واحد منا وهي تُبهرنا وتفاجئُنا دوماً بتفاصيلها المُنثالة وليست مثل تلك التي خبرناها أوّل المطاف، إذ لم يكن لدينا في ذاك الزمان ما يجذبنا لثرثراتها الماتِعة سوى واجهات الدكاكين في الأحياء وزِحام الأقدام، لا «واتساب» أو «فيسبوك» أو «ماسنجر»، وبقيّة العائلة الكريمة التي جعلت أرضنا ضيّقة بما رحُبتْ، وأنستنا أسماء من نُحب ومن نكره، لانشغالنا بثرثرة شاشاتها التي تفيض من أشداقنا وتحت أظفارنا التي لا تفارق الأزرار المُضاءة، وتجعلنا في سُهاد طويل.

تلك الصناديق الصغيرة وفيها فضائحنا الكبيرة تُسرِقنا أجمل لحظات العمر وتقطِف منّا أزهر ابتسامات السنين، وأكسبتنا «آخر موديل» في الأخلاق، ولم نعتقد يوماً أنها ستُصبح رغماً عناً جزءاً من طباعنا وأننا سنكون مِلء الإرادة عبيداً لهذه الكائنات اللاسلكية وأكثرَ طواعيةٍ في حضرة كبريائها العظيم الذي يحرمنا النّوم مثل باقي الخلائق.

البُسطاء من الناس الذين يسعون في رزق عيالهم من «طلعتها لغيبتها» وبالكاد يقدِرون على سدّ حوائجهم، هؤلاء عندما يضعون رؤوسهم على الوسائد تظلّ أذهانُهم مسكونةً بشقاء عيشِ الغد فلا يعرفون طعم النّوم. وثمّة أناسٌ أيضاً من دون النّاس لا ينامون ويفكّرون فقط كيف سيقضون أوقاتهم في الانشراح والانبساط؟ أيُّ الفريقين أسْلَم؟

يا لهذه الحياة المليئة بالإغواء والجُنون التنبُّئي الذي ينمو ويتمدّد كلّما ذهبنا باتجاهها مُحمَّلين بالأضداد، أرواحنا الصافية وتلك المُعكَّرة، الكآبة الرتيبة والصَخَب المُنفلت، البُكاء الشديد والنشيد الموجِع، شياطيننا الجامحة أو الملائكة الرحيمة، قلّما ينجو أحد من إغراءاتها المتسلِّطة ولا يملك ردَّها.

نَسُبُّ حياتنا الجديدة ونحن نضحك، ونحاول التملّص من تبعاتها الآسرة مبتهجين، لكننا لا نفعل، بل نجدنا أكثر تمسُّكاً بأهدابها ونقترن بأصباغها الخادعة. نعيشها كاملةً بعفوية بالغة ونرسم ملامحها كلَّ يوم ولا ننتبه حقاً إلى هذا الإنجاز المليء بالانجذاب نحوها أكثر من الإذعان للموت القاهر.

لعلّ من شأن الإيمان بالحياة الجديدة تفاعُلَ رغباتنا وشغفنا على نحو يُشبه «بوادر» حياة ثانية نجد أنها ما تَلبث أن تغادرَنا، وتُعاود الظهور حياةٌ جديدةٌ أخرى، وتُمثّل لنا خُدعة كبرى!