في خضمّ الضجّة الّتي تحيط بالذكاء الاصطناعيّ، يتبادر في أذهان الكثيرين سؤالاً مثيراً للتفكير: «هل سيتفوّق الذكاء الاصطناعيّ على الذكاء البشريّ، ويهدّد مستقبل عملنا وحياتنا؟» هذا التساؤل الّذي يعكس مخاوف وفضول البعض؛ يفتح الباب أمام استكشاف مقنع لمستقبلنا مع الآلات الذكيّة.
لقد أظهر لنا التاريخ أنّه بينما يتفوّق البشر في اختراع الأدوات الّتي تحدث ثورة في طريقة عيشنا وعملنا، إلّا أنّ طريقة تفكيرنا وأسلوبنا في التعامل مع هذه الابتكارات وقدرتنا على التكيّف مع التغيرات الّتي قد تُدخلها علينا؛ هي الّتي تحدّد مدى تأثيرها علينا وفي أي اتّجاه. فالإنترنت، على سبيل المثال، يمنحنا إمكانيّة الوصول الفوريّ إلى غيغابايت من المعلومات، ولكنّه قد يجعلنا أيضاً أكثر عرضة للتشتّت. وبالمثل، تربطنا وسائل التواصل الاجتماعيّ أكثر من أيّ وقت مضى، ولكنّها يمكن أن تعزّز مشاعر الاغتراب والعزلة. وبنفس الطريقة، فإنّ الذكاء الاصطناعيّ يحمل وعوداً هائلة للارتقاء بالتجربة الإنسانيّة وإثرائها، أو يمكن أن يقودنا إلى واقع آليّ رتيب خالٍ من الإلهام؛ إذا لم تتمّ إدارته بعناية.
إذاً تعتمد المحصلة النهائية إلى حدّ كبير على الطريقة الّتي نختارها لدمج الذكاء الاصطناعيّ في حياتنا وبيئات عملنا. لكي يكون الذكاء الاصطناعيّ قوّة من أجل الخير، يجب أن نتعامل مع تطويره ونشره بما يتوافق مع الاعتبارات الأخلاقيّة والشموليّة والتصميم الّذي يركّز على الإنسان، وهذا يعني الحاجة لوضع سياسات وأطر عمل وهياكل حوكمة واضحة لنشر الذكاء الاصطناعيّ في جميع أنحاء العالم؛ تضمن استخدام تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ لتكملة القدرات البشريّة بدلاً من استبدالها من خلال التخفيف من مخاطره، وتوزيع فوائده بشكل عادل.
وعلى الرغم من أنّ هناك جهوداً تبذل على الصعيد العالميّ لوضع معايير أخلاقيّة للذكاء الاصطناعيّ، مثل توصية اليونسكو بالدعوة إلى وضع مبادئ توجيهيّة أخلاقيّة في هذا الصدد؛ إلّا أنّه لا توجد وثيقة عالميّة موحّدة تحكم أخلاقيّات الذكاء الاصطناعيّ حتى الآن. وبدلًا من ذلك، تُساهم دول ومنظّمات مختلفة في مبادرات استباقيّة لتطوير المعايير واللوائح الأخلاقيّة لمواجهة التحدّيات الّتي قد تفرضها تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ. وقد خطت دول الخليج مثلًا، ولا سيّما البحرين، خطوات جديرة بالثناء في هذا الاتّجاه. حيث تؤكّد مبادرات مثل الوثيقة الأخلاقيّة للذكاء الاصطناعيّ في دول مجلس التعاون الخليجيّ؛ الّتي جاءت بمبادرة من النيابة العامّة بمملكة البحرين، تماشيًا مع التحوّل التدريجيّ في تفعيل الذكاء الاصطناعيّ وتقنيّاته في الأعمال القضائيّة؛ على الالتزام الإقليميّ بالعدالة والشفّافيّة وحقوق الإنسان في نشر تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ. ويؤكد هذا الموقف الاستباقيّ أنّه مع الحوكمة القويّة يمكن للذكاء الاصطناعيّ أن ينسجم بالفعل مع القيم الإنسانيّة والتقدّم المجتمعيّ.
في نهاية المطاف، تتوقّف مسألة ما إذا كان ضرر الذكاء الاصطناعيّ أكثر من نفعه على أفعالنا الجماعيّة نحن البشر. فمن خلال التصدّي للتحدّيات والمخاطر المحتملة والاستفادة من الفرص الّتي يوفّرها الذكاء الاصطناعيّ بشكل آمن، يمكننا التوجّه نحو مستقبل تعزّز فيه التكنولوجيا تجربة العمل الإنسانيّة بدلًا من أن تقلّل من أهمّيّتها. وهذا يتطلّب تحقيق التوازن بين الابتكار والتعاطف، والكفاءة والإبداع، والأتمتّة والتواصل الإنسانيّ؛ عندها فقط يمكننا ضمان أن يكون الذكاء الاصطناعيّ أداة للتمكين والتقدّم، وليس الركود.
الأمر لا يتوقّف عند الذكاء الاصطناعيّ فحسب، فنحن نقف على أعتاب تطوّرات غير مسبوقة في عالم التكنولوجيا من شأنها أن تحوّل مختلف الصناعات والطريقة الّتي نفكّر ونعمل بها، لذا من الضروريّ أن نجهّز أنفسنا والأجيال القادمة بالمهارات والمعرفة والعقليّة اللازمة للتعامل مع هذا المشهد الديناميكيّ.
في مقالنا القادم بإذن اللّه؛ سنتعمّق أكثر في الاستراتيجيّات اللازمة لتحقيق ذلك، وسنستكشف كيف يمكننا مواكبة هذه التطوّرات.