هناك لفظ شائع يتم استخدامه إدارياً وفي تحفيز الذات، وتسمّى به الكتب «أيقظ المارد الذي بداخلك». في إشارة إلى أهمية معرفة طاقة النفس وإزالة الغبار عنها وإحياء المهارات والقدرات التي يمتلكها الفرد والتي تناساها مع مرور الزمن في ظل المعترك الحياتي الذي يعيشه. عندما فكرت في اختيار عنوان مقال اليوم جالت بي الخواطر إلى تلك النفس المتزعزعة التي لا قرار لها في ميدان الحياة، ولا تعرف لها مساراً واضحاً في تحقيق أهدافها، أو معرفة المحطة التي تريد الوصول إليها. وكما يقولون في المثل: «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب» ويعني ذلك الشخص المتذبذب العاجز عن تحقيق أهداف الحياة، والذي لا ينظر إلى الأمام، بقدر ما ينظر إلى الاستمتاع «الدنيوي الآني» والذي يعتبره «زينة» دنيوية يجب أن يُشبع كل رغباته من خلالها.ولعل المارد الذي يجب أن يستيقظ هو عنوان مؤقت يجب على المرء أن يكتبه في أعلى الصفحة، وهو في الوقت ذاته أسلوب حياة للدنيا والآخرة يجدر بالمسلم أن يُظهر مكنون نفسه حتى يستطيع أن يكون عنوان نجاح على أرض الحياة. يقول المولى الكريم: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين». وقال تعالى: «الذين يُسارعون في الخيرات وهم لها سابقون». فالمسارعة هنا هي أصل هذه الحياة، بالمبادرة بالأعمال الصالحة، وقيل: «سبقت لهم من الله تعالى السعادة». المسارعة التي تعطي الإنسان أسلوب حياة واضح بأن يستثمر كل ثمرات الخيرات وجميع فرص الارتقاء، وأن يكون مُحاطاً بأسباب النجاح، ومتوكلاً على الله تعالى، ومُفيداً للآخرين، ومُنتجاً لمجالات الأثر الجميل، فيُخطط من أجل أن يستطيع أن يعيش بسلام، وأن لا تكون قراراته وحياته «مُبعثرة» في جوانبها المختلفة، وبخاصة فيما يخص سمات الشخصية، والإدارة المالية، وفنون التعامل مع الآخرين، وقوّة البذل والعطاء والتضحية.ليست الحياة مُقتصرة على مفاهيم الاستمتاع الثانوية التي تقتصر على شواهد وأهداف دنيوية زائلة ومحدودة، بقدر ما هي حياة مبنية على مسارات حياة الآخرة، والتي هي أصل وجودنا في هذا الوجود. وهذا مع الأسف هو المنظور المغلوط الذي يعيش في ظلاله العديد من الناس وبخاصة بعض الشباب الذين ألهتهم الحياة الدنيا عن الآخرة، واتخذوا مسارات هامشية في عيشهم، واعتقدوا بأن النجاح في العمل أو المجتمع أو تحقيق المهارات، هو أصل من أصول التميز النوعي للشخصية، في حين تناسوا أن العلاقة مع الله عز وجل ومقتضيات الطاعة والعبادة وشموليتها، هي المرتكز الأساسي الذي ينطلق من خلاله الإنسان من اجل التوفيق في الحياة وتحقيق الإنجازات والنجاحات المتتالية، وترويض النفس على حبها للخير. مع الأسف الشديد فقد تاه البعض في بحور التيه والانغماس في الملذات، على حساب إنجازات الأثر الجميل، الأثر القائم على مفاهيم الصدقة الجارية، والبناء الحقيقي لرصيد الحسنات في الآخرة.من هنا يجب أن نحيي سمات المارد الموجود في ذواتنا، وأن نوقظه من سباته ونزلزله من أن أجل أن نعرف مقصودنا الحقيقي على هذه الأرض، ومن أجل أن نسير بثبات في تحقيق أهدافنا الأخروية، وهي الأهداف السامية في حياتنا، فقد خُلقنا ونحن نعرف أننا سنرحل لحظة ما، فلابد أن نجعل للرحيل قيمة حقيقة في عيشنا «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة». حتى نجعل للحظة معنى حقيقي نتمرد فيه على سلبيات الحياة ومضامين التمدن المزعومة، وأن نسمي الأمور بمسمياتها الحقيقية، وأن نعرف السبيل إلى مناجاة المولى الكريم ليكون لنا عوناً وسنداً وثباتاً في مسير الحياة. فإنما بركة الحياة وتوفيقها وعافيتها ونجاحاتها وتيسيراتها، إنما مردها إلى مضمون العلاقة مع الله عز وجل، والمشاعر الرقيقة التي يجب أن يعيشها الإنسان وينظر من خلالها إلى كل مواقف الدنيا، والتي تعطينا عظة ودروس مُثرية نستطيع من خلالها معرفة العيش باستقرار ووضوح وبلا تردد.بالأمس أحسست وأنا داخل إلى الصلاة بتلك الضائقة الحياتية التي يعيشها أهلنا في غزة، وصلتني رسالة ربانية أبكت قلبي، وأشغلتني بمجالات عطائي على هذه الأرض، ونبّهتني إلى علاقتي مع الملك الديان، وأين أنا في قاموس العطاء الحقيقي والأثر الذي يجب أن أتركه في الأرض قبل أن تأتي ساعة الرحيل. عرفت أهمية أن أحيي في نفسي وفي كل لحظة «مارد الخير» وأن أوقظ كل صفات جميلة قد اندثرت مع أيام الحياة، وألا ألتفت إلى تفاهات البشر وتصادماتها المُلهية للنفس، لأنني على يقين بأن ما عند الله تعالى أبقى، وأن هناك نفوساً تعيش بدون أبسط مقومات العيش الكريم، وتنتظر الموت في أي لحظة وسط معترك أليم بلا أمن ولا عافية ولا لقمة دافئة ولا شربة ماء باردة. إحساس جعلني أن أحمد الله تعالى، وأن أقوم اللحظة وأنفض الغبار وأقدم ما في وسعي لأكون خليفة حقيقياً على هذه الأرض، أعمرها بالخير في كل مجال أعيشه وأستثمر الفرصة.. لأنها لن تعود.ومضة أمل:اللهم يا مُصرف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك.