مفارقة تحمل الكثير من الدلالات والمعاني تقع بين بعدين، الأول: توصية لجنة الخدمات برفض التعديلات المقترحة بمشروع قانون تقاعد النواب والشوريين والبلديين، الذي يتضمن إلغاء سقف تقاعدي يصل إلى 4 آلاف دينار للعضو، ووضع ميزة استثنائية باستحقاق التقاعد لمن جرى تعيينه بمجلس الشورى أو انتخب بمجلس النواب ولم يمض على عضويته بالمؤسسة التشريعية 4 سنوات كاملة.
أما البعد الثاني فيتمثل بمطالبات الناس (عامة الناس) برفع الحد الأدنى للتقاعد الذي يبلغ حالياً 350 ديناراً بعد سنوات من الخدمة الطويلة تصل لـ 30 أو 40 عاماً، هذا الهم المتجدد الذي يقض مضجع العاملين في القطاع الخاص قبل العاملين في القطاع الحكومي، وجف الحلق من الحديث عنه مراراً وتكراراً في كل مناسبة وفي كل تجمع أهلي.
إنها مفارقة تبين حجم الفجوة الاجتماعية التي نتحدث عنها من جهة، وتباين فضاء الأرقام الذي يطرح بين فئة اجتماعية وأخرى، إنه واقع مرير يعكس سوء حال الناس، وقلة ذات اليد التي تعكر صفو من قضى السنوات الطوال من عمره بخدمة وطنه في أي موقع كان، سواء في وظيفة بسيطة أم وظيفة مرموقة، فالكل سواء في العمل من أجل الوطن.
قالت رئيس لجنة الخدمات د.جهاد الفاضل أمس الأول «إن مشروع قانون تقاعد النواب والشوريين والبلديين يأتي في ظل سياسة عامة بالبلاد لترشيد النفقات العامة وخفض المصاريف، معتبرة أن المزايا التي يتضمنها التشريع ستتسبب في أعباء مالية، ومن الأولى أن يكون عضو البرلمان قدوة للمواطن في حفظ المال العام»، وهذا طرح جميل يبرر رفض المقترح في هذا التوقيت الحرج. أيضاً قالت الفاضل: «أنا من ضمن المستفيدين من إقرار هذا التشريع ولكن لدي موقف أخلاقي، وهو رفض مشروع القانون لأن طريقة احتساب المعاش التقاعدي المقترحة بالتشريع غير عادلة».. وهذا أيضاً نموذج مضيء لسوق التبريرات المقنعة، فما أجمله من منطق، وما أبلغها من كلمات تبين أهمية تقديم المصلحة العامة على الخاصة في أي موقع كان. نعم نعيش ونعايش سياسة التقشف، ولكن لتكون عادلة على الجميع.. وإن كنا نتحدث عن المتقاعدين هنا، فإنه يمكن لفت النظر إلى إمكانية عمل إجراءات كثيرة إيجابية تميز المتقاعد دون أن تكلف المال، هي ترتيبات تجعله في مقدمة المستفيدين مثلاً من الخدمات العامة، وتسهيلات لا تحتاج إلى أكثر من إيلائه بعض الاهتمام والخصوصية التي يستحقها رغبة في خدمة هذه الفئة ليس إلا.
أعود بالذاكرة إلى 2011 حيث قررت لجنة الدمج بين صندوق التقاعد وهيئة التأمينات تسوية الراتب التقاعدي على أساس 1/40 من متوسط الراتب للسنتين الأخيرتين مضروباً في عدد سنوات الخدمة المحسوبة في التقاعد، وبحد أقصى قدره 80? من هذا الراتب، ووافقت اللجنة على أن يكون الراتب شاملاً العلاوات والبدلات والمكافآت والعمولات ذات الصفة الدائمة والمستمرة، ولكن هل طبق هذا وغيره من أمور كانت واردة في موضوع الدمج وتوحيد المزايا؟، طبعاً لا، إذ بقيت حبراً على ورق، فهناك من يخرج متقاعداً ب 40% راتبه، وفي أحسن الأحوال 60% من راتبه في القطاع الخاص، في حين يخرج الموظف الحكومي براتب تقاعدي يبلغ 80%!. أشاطر عامة الناس آمالهم بوجود موقف موحد شامل ينصف المتقاعدين ولو بعد حين، موقف يبين احترام التشريع لقيمة العمر، يثمن سنوات الخدمة الطويلة في أي مجال وفي أي قطاع دون تمييز، لاسيما وأن الجميع يشجع اليوم على ارتياد القطاع الخاص وعدم تعليق الآمال على القطاع الحكومي فقط.
وعوداً على بدء، إن كنا نتحدث عن تغليب المصلحة العامة على الخاصة، فإننا نتحدث عن نماذج مضيئة حق لها أن تبرز في المجتمع لتكون مثالاً يحتذى به في كل المواقع، ولكي تتردد على لسان الناس، وتصبح بداية لتغيير حقيقي يحتاجه المجتمع في أسلوب تعاطيه مع مشاكله.