يراها الكثيرون من أكثر الشخصيات الفنية جاذبية وإثارة، ليس على مستوى الشكل الذي كانت أيقونة فيه للجسد. بل على مستوى الشخصية التي أحاطتها بلفيف من رموز السياسة والفكر والفن. تحية كاريوكا لم تكن مجرد راقصة شرقية وممثلة موهوبة، فحسب. تحية كانت امرأة شعبية بمقاسات حداثية تستحق أن تصنف بمنظور ثقافي خاص واحدة من الرموز النسوية العربية في القرن العشرين.

لم تمتلك تحية كاريوكا مقومات الاستقرار والسعادة في جميع مراحل حياتها. ولدت في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين سبتمبر 1919م. حين كانت المرأة لا تستطيع إلا أن تكون (أمينة) زوجة السيد أحمد عبدالجواد (سي السيد). والحقيقة أن ظروف طفولتها كانت بالفعل كذلك، فقد كان والدها مزواجاً، وحين توفي تسلط عليها أخوها غير الشقيق وحرمها من إكمال تعليمها وفرض عليها خدمته وخدمة زوجته. وحين فرت من هذا العذاب واحترفت الرقص تبرأت منها جدتها، التي تولت تربيتها، وأقامت لها سرادق عزاء وأعلنت وفاتها حية عقاباً لها على سلوكها طريق الرقص. ومنذ ذلك الوقت الباكر من حياتها لم تتمكن من إعادة بناء استقرارها الاجتماعي، لكن روحها لم تنهزم وبقيت تحارب كل انكساراتها حتى بلغت الثمانين من عمرها.

في مجال الرقص الشرقي، الذي غادرته باكراً، ومجال السينما، تركت تحية كاريوكا بصمتها الخاصة. لم يكن لها شبيه ولا بديل، وكانت مدرسة في حد ذاتها. وعلى صعيد حياتها الشخصية تزوجت، فيما يرجح كأكبر رقم للزيجات، سبع عشرة مرة. امتد بعضها من عدة أيام إلى ثمانية عشر عاماً. وكان شعارها ألا ترتبط برجل إلا بعلاقة شرعية. ارتبطت بالسياسي والفنان والضابط ورجل الأعمال والفقير والمسيحي الأصل وغير العربي. لم تكن تنظر للفوارق الطبقية، ولم تعرف الحواجز البشرية. ليس هذا على مستوى الزواج فحسب بل كان سمة إنسانية تميزت بها.

وعلى الرغم من قلة تعليمها ومحدودية وعيها، إلا أنها انخرطت في نشاط سياسي مثير في بواكير شبابها في عهد الملك فاروق، ودخلت السجن مرتين في عهد جمال عبدالناصر. وسواء كانت تحية كاريوكا تمتلك خطاً سياسياً ورؤية أم لا تمتلك، فلا خلاف على أنها كانت تمتلك شجاعة نادرة في الوقت الذي كانت لا تمتلك فيه أسرة تحميها ولا حزباً يدافع عنها. كانت معتقداتها هي جيشها وذاتها هي قوتها الكاسحة.

الفشل الأسري المتكرر في حياتها الشخصية، والصراعات الفنية التي رافقت مسيرتها المهنية، خلفت آلاماً وإحباطات في حياتها، قادتها إلى محاولة الانتحار ذات مرة. لكن شيئاً مجهولاً من القوة في داخلها وأشياء من حب الحياة مكنتها من الاستمرار في النجاح وفق اختياراتها هي، وليس وفق ما تفرضها عليها الحياة. يكفي أن تتأمل في صور تحية كاريوكا لتدهشك ابتسامتها الواسعة وعيناها البراقتان، لتفهم أنها كانت تواجه حياتها القاسية بروح متفائلة ومعنويات مقاتلة لا تلتفت للخراب الذي انتهى خلفها.

هذه الروح المشعة هي التي كانت تتوهج أثناء وقوفها فوق خشبة مسرح الرقص أو في أعمالها السينمائية. روحها الوهاجة كانت تطغى على دلالات الغواية في رقصها، وعلى بناء الشخصيات التي تؤديها. وهي ما أسَرَت به كثيراً من المثقفين، وحدت بهم للكتابة عنها. فقد اعتبرها إدوارد سعيد فنانة لعبت دوراً كبيراً في تشكيل «الثقافة المصرية». وصنفها بأنها من النساء التقدميات «اللاتي يتفادين الحواجز الاجتماعية أو يزلنها». هذا التحليل الثقافي لشخصية تحية كاريوكا ولفنها يتجاوز (دور الجسد التقليدي) الذي يمكن أن تمثله الراقصة، إلى دور (التأثير الثقافي) الذي تلعبه الشخصية استناداً إلى المكانة التي يمكن أن تتمركز بها في الوعي الاجتماعي.

الذكاء الاجتماعي الفطري الذي امتلكته تحية كاريوكا وقدرتها على فهم الحياة والاستفادة من تجاربها جعلها تتجاوز النقص التعليمي الذي عانت منه. لتتمكن في كل مرة من النهوض من كبواتها ومعاودة النجاح في حياتها مرات عديدة. أدركت ذلك، وأنا أتأمل سيرة الكاتبة المبدعة مي زيادة. مي ولدت محظوظة، في عائلة عريقة ومتعلمة وغنية. أتمت تعليمها وأتقنت العديد من اللغات، وافتتحت صالوناً ثقافياً خاصاً بها في القاهرة حضره كل رموز الفكر العربي في ثلاثينيات القرن الماضي. إلا أن مي سقطت روحها في (مأساة الفقد) بعد أن توفي، على التوالي، والدها ووالدتها وجبران خليل جبران حبيبها الروحي. أحيطت مي بالعشرات من المبدعين ممن عشقوها ولكن تناقضات الرجل الشرقي كانت جزءاً من آلام سيرتها الشخصية والثقافية كذلك. فحين أدخلت مستشفى المجانين، في مكيدة أسرية، وقف بعض (عشاقها) ضدها، وحين توفيت باكراً حزينة منكسرة ومنعزلة، لم يمشِ منهم في جنازتها سوى ثلاثة. يبدو الفارق كبيراً بين تحية كاريوكا التي تحدت الحياة بالاستمرار فيها ومصارعتها، ومي زيادة التي تحدت الحياة بالانكفاء على الكتابة والقراءة، وأخْذ قسط من العزلة، تجنباً لخوض الحروب الاجتماعية المرهِقة.

يقول المبدع العربي الكبير واسيني الأعرج: «إن سيرة مي زيادة نموذج للحداثة العربية المعطوبة التي عبر فيها المثقفون عن تبني ظاهري للأفكار الحداثية دون أن تغور تلك الأفكار إلى ترجمات سلوكهم مما جعل من مي اختباراً لحقيقتهم وحقيقة أفكارهم». لكنه كان اختباراً قاسياً عليها هي وحدها فقد زاد في هشاشتها وآلامها. وتقول الفنانة رجاء الجداوي، ابنة أخت تحية كاريوكا،: إن تحية كاريوكا قضت باقي حياتها سعيدة وراضية وزاهدة برغم فقرها. وأنها رفضت الموافقة لأي جهة على إنتاج أي عمل فني يتعرض لحياة أزواجها السابقين كي لا تسيء إلى أسرهم. ذلك السلام الذي عقدته تحية كاريوكا مع الحياة التي صارعت فيها طويلاً هو جزء من عبقرية روحها التي تكيفت مع هذه الحياة وألهمت الكثيرين من سيرتها الشخصية ومن إبداعاتها الفنية.