غزة - عز الدين أبو عيشة

تحركت مسرعة إلى المطبخ رتبت الأطباق، ثمّ تأكّدت من الصنبور إذا كانت المياه قد وصلت أم لا زالت مقطوعة عن البيت ليومها الثالث، على عجالة توجهت هبة التتر (30 عاماً) إلى زوجها لإيقاظه من النوم علّه يجد حلاً لانقطاع المياه.

محمد التتر (35 عاماً) يعمل ثلاثة أيّام فقط في الأسبوع، منذ تخرجه من الجامعة، كما أنّه لم يجد وظيفة في مجال دراسته الهندسة المعمارية، لكنه في ذات الوقت وجد عملاً في مجال البناء، أصعب قطاعات المهن وأكثرها خطراً وإرهاقاً.

تزوج محمد من هبة عام 2014 ذلك العام الذي تعرض فيه قطاع غزّة لعدوان إسرائيلي، استمر 52 يوماً، استشهد خلاله أخ محمد، وأختين لزوجته، ورغم الجراح وتكالبها إلا أنّه يحاول العيش وسط إرهاصات الحياة.

يسكن محمد بالإيجار في عمارة سكنية صغيرة، ينقطع عنها الماء بالأيّام حاله مثل الكثير من المواطنين، فيعاني القطاع من أزمة مائية كبيرة؛ فنسبة استهلاك المياه في القطاع تفوق أربعة أضعاف نسبة تغذية المياه الجوفية، خلاف التلوث الذي يفوق 90% ما يجبره على شراء الماء من الباعة.

بسرعة يبدل محمد ملابسه، ويأخذ من زوجته ورقة فيها العديد من الطلبات المنزلية وعدد من أنواع الخضار والفواكه الأساسية لكل منزل، وعلى عجالة ينزل للسوق الذي يبعد عنه حوالي كيلو متر.

الطريق للسوق يحتاج إلى مواصلات وهو يفتقر لسيارة، ما يجبره على انتظار السيارات العمومية، ولكن في حقيقة الأمر هناك نقص كبير في السولار والبنزين، فالاحتلال لا يسمح بدخول المحروقات للقطاع إلا بكمياتٍ محدودة ووفق سياسته.

وبعد معاناة وصل محمد، وأثناء تسوقه لم يجد العديد من المستلزمات المنزلية الأساسية، إلى جانب غلاء كبير في أسعار الخضروات والفواكه، لأن قطاع غزة يعاني من حصار إسرائيلي منذ 11 عاماً، وغير مسموح دخول الكثير من البضائع ولا المعدات اللازمة، ولا حتى المواد الخام، ولا الوقود.

وعند عودته للمنزل .. بعد استغراقه نحو ساعتين يحاول خلالها توفير الكثير من قائمة المستلزمات، وجد الكهرباء لا زالت مقطوعة، وهنا يبدأ فصل جديد من المعاناة، فكل شيء يدخل الثلاجة سيتلف بعد مدة قصيرة، نظراً لعدم وجود الكهرباء، خلاف عطب أصاب البراد قبل فترة، ولا يجد محمد مالاً لإصلاحها.

هنا يجب الإشارة إلى أن القطاع يعاني من أزمة كهرباء حادة منذ عام 2006 بعد قصف الطيران الإسرائيلي للمحطة الوحيدة في القطاع، وباتت ساعات الوصل أقل من 4 مقابل 20 ساعة قطع، بينما مصادر الكهرباء من إسرائيل ومصر وإنتاج مولد واحد من محطة الكهرباء نجا من القصف.

أنهى ما هو مهم لبيته، ثم غادر لعلمه في البناء تحت أشعة الشمس الحارقة، فمحمد يقضي أكثر من 10 ساعات في عمله، الذي يفتقر فيه لأبسط مقومات الأمان، وغياب الرقابة، وقلة المردود المادي.

فيتلقى محمد مقابل 300 ساعة عمل شهرياً، ما لا يزيد عن 600 شيكل، أي نحو 200 دولار أمريكي، وهو أقل من الحد الأدنى للأجور المسموح به في فلسطين والمقدر بحوالي 1450 شيكل ما يعادل 450 دولار شهرياً.

ورغم ذلك يُجبر محمد على العمل فإذا رفضه، لن يجد فرصة أخرى، فغزة تعاني من نقص فرص العمل، وارتفاع معدلات البطالة إلى 60% بينما نسبة الفقر وصلت 49% وفاق عدد الخريجين العاطلين عن العمل أكثر من 250 ألف خريج.

وبحسب محمد فإنه تعرض لإصابتين قبل ذلك أحدهم في عمله، وكسر ذراعه حينها ولم يجد اهتمام لا من رب العمل ولا من الجهات الحكومية، ومرة أخرى أثناء مشاركته في مسيرات العودة التي انطلقت في 30 مارس المنصرم، تجاه الحدود مع الجانب الإسرائيلي.

ولم يجد محمد أثناء إصابته في قدمه نتيجة إطلاق النار عليه من قبل الاحتلال الإسرائيلي، العلاج المناسب ولا الاهتمام، كما أن وزارة الصحة تعاني من نقص حاد هي الأخرى في الأدوية وعجز كبير في المعدات الطبية، وأطلقت في وقت سابق سلسلة نداءات استغاثة، لإنقاذ 16 ألف جريح في مسيرات العودة.

وبالعودة إلى منزل محمد، الساعة تشير الآن إلى الرابعة مساءً، وقت الغذاء قد حان لكن لا يوجد في المنزل غاز للطهي، وإنّ وجد فإن الكمية لا تكفي لطهي الطعام لمدة شهر واحد، كما أنّ أنبوبة الغاز تستغرق حوالي أسبوعين عند التاجر حتى يستطيع إعادة تعبئتها بنصف الكمية فقط.

وحتى اللحظة لم تأتي الكهرباء، وهبة تريد في ذات الوقت تحميم أطفالها، أو حتى تشغيل مروحة للتخفيف من حدة الحر في ذلك الجو، لكن لا حياة لمن تنادي، فموعد وصل الكهرباء بعد الساعة العاشرة ليلاً.

وما أن عاد محمد لبيته، جلس يعمل حسبته المالية، ديونه وصلت 500 دولار، بينما دخله يوزّع على مستلزمات أسرته، وثمن علاج والدته، ومصروف لأطفاله وزوجته، وفاتورة الهاتف والكهرباء والماء، يتساءل محمد: "كيف سأمضي الشهر بدون أيّ بلاغ له من الشرطة نتيجة تراكم الديون، ومطالبة المدينين لي بالتسديد".

وبحسب وزارة الداخلية فإنها أصدرت مؤخراً بياناً أوضحت فيه بأنّ عدد القضايا المرفوعة بالمطالبات المالية وصل 4 آلاف قضية، وهناك أوامر سجن لنحو 3 آلاف آخرين في ذات الموضوع.

وعند الساعة العاشرة، وبعد وصول الكهرباء، بدأت هبة عملها كربة منزل، انشغلت في الأعمال المنزلية (شطف المنزل، وغسل الملابس، وكي القمصان، وخبز الخبز، وتشغل مولد المياه)، قبل محاولة خلودها للنوم، التي قد يقطعها صراخ أحد أطفالها مرضاً.