قد تضطر في بعض مراحل حياتك أن ترحل عن مكان أثير إلى قلبك، تعلمت منه الكثير وقدمت فيه أعلى درجات العطاء، وكانت لك من خلاله صولات وجولات مع من تحب، واستطعت أن تترك أجمل الأثر في نفوس كل من تعاملت معهم سواء كانوا طلبة في سلك التعليم، أو زملاء عمل أو محتاجين وأيتاماً وأرامل.. تضطر وبعد تفكير عميق أن تتخذ قراراً مصيرياً بانتقالك إلى مرحلة أخرى من حياتك بإرادتك وعزمك.. ليس كرهاً فيما تحب.. بقدر ما هو سنة الحياة التي نظرت إليها فأيقنت أنك ستقدم في الغد المزيد من العطاء في مجالات أو مساحات أخرى من الحياة.. قررت أن ترحل لأنك نظرت إلى ذاتك وعلمت أنك اليوم بحاجة ماسة أن تلتقط الأنفاس وتستريح قليلاً كاستراحة المسافر في واحة تظله وشربة ماء ترويه في الصحراء.. قررت أن تترك رفقاء دربك في العمل الذين كنت تراهم أكثر مما ترى فيه أهلك وذريتك.. قررت أن تتركهم لتتفرغ لنفسك قليلاً وتعطيها دفعة أمل أخرى في بيداء الحياة.. هكذا هو حال المتقاعدين اختيارياً.. رسمت حالهم كلما رأيت من أحدهم وقد ترك عمله وقرر أن يرتاح ويبدأ صفحة جديدة من حياته.. رسمت حال ذلك المدرس الذي لوح بيده مودعاً تلك الصفوف الجميلة التي علم فيها الأجيال، ومودعاً رفقاء دربه الذين عاش معهم لسنوات طويلة يعلم ويربي ويوجه ويترك أجمل الأثر في نفوس الطلبة.. رسمت تلك اللوحة الفنية وأن أشهد اليوم مغادرة ثلة من الكفاءات الموهوبة في المؤسسة الخيرية الملكية الذين قرروا أن يرحلوا من بين قلوبنا وهم يحبون مكانهم الذي قدموا فيه الكثير.. بالفعل ليس من الأمر الهين أن يغادر من بين ناظريك من تحب.. من عاش معك يتقاسم لقمة السعادة في خدمة الفئات المحتاجة التي أوصى بهم النبي صلى الله عليه وسلم خيراً.. ولكن.. أولاً وأخيراً.. تبقى المودة التي تجمع القلوب في كل مكان، وتبقى الذكريات حاضرة في الأذهان تتداولها الأجيال، وتكتب معها تلك التجارب الثرية التي حصلت في كل مكان قدم فيه ذلك المتقاعد عصارة جهده من أجل أن يترك الأثر.. وهو الذي سينفعه في دنياه وآخرته.. لكل متقاعد قرر الرحيل.. أرفع لك قبعة التقدير والامتنان لجهد بذلته من أجل لقمة عيشك.. ولجهد بذلته من أجل دينك ووطنك.. ومن أجل أن تكون لمسة سرور وسعادة ساحرة في حياة كل من قابلته.. هنيئاً لك فقد انتقلت اليوم إلى محطة أخرى من محطات الحياة.. تتنفس فيها العطاء والأجور الخالدة.. هنيئاً لك فقد قدمت الكثير وباستطاعتك أن تقدم المزيد في حياة أراها سعيدة كسعادة قلبك.. يكفيك فخراً أنك اليوم تودع ذلك المكان الجميل الذي أعطيته وأعطاك الكثير وقد لوح لك كل من أحبك بأنامل السعادة يودعك بمشاعره وأحاسيسه ويتمنى لك حياة هانئة سعيدة ويدعو الله أن يلبسك فيها لباس الصحة والعافية، وتكون من خلالها شامة في المجتمع يشار إليها بالبنان.. فلا تقف عند حد معين.. ولا تركن إلى الكسل.. ولا تظل تقبع بين جدران البيوت.. فإنك محاسب على وقتك وحياتك.. بل عليك أن تحلم أن تكون نجمة في سماء العطاء والأثر الأبدي حتى الرمق الأخير من حياتك.. اعذرني.. فكلماتي المبعثرة.. هي عنصر محبة لك.. لأني أراك الخير الذي يمشي على الأرض.. ومهما أقيمت لك حفلات التكريم والوداع.. والتي ستبكي كل من حولك.. ستظل أنت النجم الذي قدم ومازال يقدم.. فلا تفتر أبداً عن العطاء.. العطاء الأبدي الذي يرفع ذكرك في الجنان.

وأنا أتأمل هذه اللوحات الجميلة، وأكتب هذه الكلمات العابرة، تأملت في كل امرئ ينظر للعطاء بمنظوره الخاص.. تأملت في شخصيات كثيرة نعاشرها كل يوم.. ليست شخصيات عابرة.. وليست نفوساً من السهولة بمكان أن تترك معاشرتها.. لأنها شخصيات تصاحب ظلك وتتقاسم معك مشاعر الحياة.. كل يوم في محيط الأعمال، وفي المساجد، والديوانيات ومفترق طرق الحياة.. تأملت تلك النفوس التي مازالت معي.. تقدرني وتذكرني بدعائها في الخلوات.. تأملت تلك الرسالة الرقيقة من صديق قديم يعبر عن مشاعره: اعذرني عن التقصير، ولكنك تصحبني على الدوام في دعائي.. فيا لها من مشاعر فياضة يذكر فيها اسمك في الغيب.. في دعوات ذلك الفقير المسكين الذي قابلني بعد الصلاة.. حيث مكثت معه ساعة زمان.. ظل يكلمني عن المحبة في الله.. يكلمني بأنه سعيد بأن أكون معه في هذا المكان.. بعد أن رافقته في المسجد لسنوات طويلة.. يبوح بمحبته لي.. ويعدني فرداً من أفراد أسرته.. سال الدمع من عيني.. ودعوت ربي أن يحشرني في زمرة المساكين.. فهم من يذكرونك بالله.. وهم من يبتسمون لك كلما سارعوا للسلام عليك.. أو اشتروا لك شربة شاي، أو قدموا لك بضع تمرات.. تأملت زملائي في العمل.. وهم يشدون على يدي حتى نواصل مسيرة الأثر والعطاء في خدمة الأيتام والأرمل والمحتاجين.. أتقاسم معهم أجمل صور السعادة والفرح بعد كل عطاء نرفع فيه أعلام النجاح والتميز.. فهم من أستذكر معهم الخير كلما فترنا، أو مرت في دروبنا معضلة نحتاج أن نجد لها الحل الناجع.. أتأمل نصائحهم ونصائح كل من أحب أن أرجع إليه لأستشيره.. فلا أتراجع أبداً من أن أكون العنصر الذي يبني ولا يهدم ويتمنى الخير لغيره.. فهو قد يضطر في أحيان كثيرة أن يقحم بلا قصد في قرارات مصيرية.. ولكن الأهم أن تكون نيته لله.. وسلواه أن الخير فيما يختاره الله لعبده.. أتأمل كل ذلك وأستغرب ممن ظل يترصد عثرات غيره، ويعلق على كل شاردة وواردة لمن ينافسه في الخير، وظل حجر عثرة في طريق نجاح الآخرين.. فهو يعقد الأمور ويصعبها على نفسه أولاً.. وتناسى أننا خلقنا لعمارة الله في الأرض وللتسهيل على عباد الله.. ولكن.. تبقى النفس الطيبة طيبة في أصلها.. مهما اختلفت عليها الأمزجة البشرية، تراها هي المتميزة في ثباتها وهدوئها وابتسامتها المشرقة.. لأنها.. تحب الخير.. بعيداً عن كل ظنون البشر..

* ومضة أمل:

اللهم سخر حياتي كلها لك.