نواصل في الجزء الثالث من المقال حديثنا عن دروس التجربة الحديثة والحضارة الصينية العريقة ومقارنة بالحضارة المصرية. ذهب البروفسور كريل في كتابه عن الفكر الصيني إلى أن الفكر الصيني في جوهره فكر تأثر بعوامل ثلاثة: أولها: إن الفكر الصيني المبكر أي السابق على العصر المسيحي على حد تعبير كريل كان فكراً محلياً في جوهره. ثانيها: ارتباط ذلك الفكر بالتاريخ والحضارة الصينية، فقد كانت تلك الحضارة محلية بحكم مرحلة تطورها، وتحت تأثير العامل الجغرافي المرتبط بموقع الصين في أقصي شرق آسيا وثالثهما: كانت المرحلة التاريخية في العالم، لا تزال مرحلة حضارات مبكرة معظمها حضارات محلية، ولكن الفكر الصيني في العصر الحديث أي منذ القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر أو بالأحري منذ بداية عصر النهضة الأوروبية ثم مرحلة الاستعمار الأوروبي، ونتيجة للاعتبارات الثلاثة السابقة اتسم الفكر الصيني بأنه عبر عن حضارته فكان ثمة اكتفاء ذاتياً حتي منتصف القرن التاسع عشر. ولذا فإنه عندما سئل عالم صيني آنذاك: هل يعتقد أن طلب العلم يتحقق بالتنقل في البلاد خارج الصين؟ فكان جوابه «إن من كان على علم بالدارسات الصينية القديمة ليس به حاجة إلى مزيد من العلم. هذه المقولة للعالم الصيني تعبر عن ثلاثة أمور:

الأول: القناعة الذاتية للصينيين بما لديهم من حضارة وعلم ومعرفة.

الثاني: انعزال الصين جغرافياً عن العالم مما أدى لانعزال فكري وثقافي وسياسي.

الثالث: إن الصين بحكم مساحتها الجغرافية وموقعها الاستراتيجي، وكبر حجمها البشري مقارنة بالدول الأخرى فليست بحاجة للانفتاح على الخارج أو على الشعوب الأخرى.

ومن هنا أطلقت الصين على نفسها بأنها الإمبراطورية الوسطي أو المركزية Zhonggou ونظرت للشعوب والدول الأخرى خاصة المجاورة في آسيا بأنها شعوب برابرة. ومن هنا جاء بناء سور الصين العظيم ليحمي أرضها من غزوات أو اعتداءات البرابرة. كما يمكننا الإشارة إلى أن التقدم الحضاري الصيني كان سابقاً على كثير من الدول الأوروبية والدول الآسيوية، ربما باستثناء دول جنوب غرب آسيا وجنوب وشرق أوروبا حيث برزت حضارات عملاقة وإن اتسمت تلك الحضارات بالنزعة الاستعمارية والتوسع والاعتماد على دول الجوار بخلاف الحضارة الصينية التي تمتعت باستقلالية واكتفاء ذاتي، ولم يكن لديها أية نزعة استعمارية وهذا يقدم لنا الفارق التاريخي والحضاري بين الصين وأوروبا بوجه خاص في التاريخ القديم مما قد يكون من المحتمل انعكاسه على الوقت الحاضر.

ويثار التساؤل، ما هو المقصود بدروس التجربة والحضارة الصينية. دروس التجربة نعني بها تجربة الصين المعاصرة في القرن العشرين والحادي والعشرين، ونقصد بدروس الحضارة الصينية أبرز النتائج والآثار التي أنتجتها الحضارة الصينية للعالم. ولا ينبغي أن ننسى أن الصين قدمت أهم عشرة اكتشافات أو إبداعات للعالم بأسره وفي مقدمتها صناعة الورق وصناعة البارود، وهذا استهدف صد الهجوم والغزو المحتمل للصين في صناعتها للبارود أي أن هدفها كان للدفاع عن أراضيها ولم تستخدمه في غزو أو استعمار شعوب أخرى، كما حدث في أوروبا. كما أن الصين في صناعة الورق اهتمت بتطوير فكرها وثقافتها بأكثر من اهتمامها بنشر هذه الثقافة وغزو العالم الخارجي بها، كما حدث في حضارات غرب آسيا وجنوب شرق أوروبا ثم في باقي الدول الأوروبية التي انطلقت بها الثورة الصناعية الحديثة والكشوف الجغرافية واستخدامها في الغزو والبحث عن أسواق ونشر اللغات الأوروبية مثل البرتغالية والأسبانية والإيطالية ثم الفرنسية والإنجليزية وتصارعت أوروبا مع بعضها من أجل السيطرة على مناطق وأراضي في أوروبا. وأيضاً من أجل الاستعمار والتبشير ونشر العقيدة الدينية المسيحية فيما أطلقت عليه مصطلح التبشير وربطت بين ذلك وبين ما أسمته نشر الحضارة والهدف الرئيس هو الاستعمار والسيطرة. كما سبق ذلك نشر الإسلام من خلال الحضارة الإسلامية والعربية وإن اختلف الأسلوب والهدف في الحالتين «المسيحية والإسلام».

التجربة الصينية المعاصرة بالانفتاح على العالم منذ عهد دنج سياوبنج كانت مستمدة من حضارة الصين، وهي الاعتماد على الأمثلة الشعبية وعدم استيرادها من الخارج والاعتماد على التجارة بين الصين والعالم الخارجي، ولم تلجأ الصين لعمليات الغزو والاستعمار كما حدث في الكشوف الجغرافية، أو للغزو كما حدث في الحضارة البيزنطية والرومانية والفارسية.

ويمكننا القول بأن ثمة تشابهاً كبيراً بين الاكتفاء الذاتي الصيني والاكتفاء الذاتي المصري في عهد الفراعنة وأيضاً اعتماد كل من الحضارتين على التجارة مع الدول الأخرى وليس الغزو والاستعمار. ومصر كانت في معظم تاريخها في حالة دفاع عن نفسها ضد الهكسوس وضد الفرس وضد الرومان ومساعيهم لغزوها وتدمير حضارتها. كما دافعت عن الإسلام والمسلمين ضد التتار والمغول والصليبيين. وكما تفاعلت مصر مع ما يمكن أن نسميه دائرتها الحضارية أي شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام وأفريقيا الشرقية والشمالية، تفاعلت الصين مع دائرتها الحضارية في شرق وجنوب شرق آسيا والمحيط الهادي، ولذلك انتشرت لغتها وثقافتها في دول دائرتها الحضارية. وكما حمى سور الصين العظيم بلاد الصين وحضارتها، حمت الصحراء الغربية والشرقية حضارة مصر وأراضيها الموحدة بوجه عام إلا من قلة من الغزاة الطامعين في الاستعمار والسيطرة وفي تدمير حضارتها مثل الفرس والرومان والبيزنطيين والتتار والعثمانيين في العصور الوسطى، وكذلك بعض الشعوب المجاورة لها في العصور القديمة خاصة في مرحلة تدهور الحضارة الفرعونية فكانت الشعوب المجاورة طامعة في قيادة مصر وحضارتها مثل شعوب النوبة والليبيين، وهذه الشعوب كانت متفاعلة مع شعب مصر ومتداخلة معه بحكم الجوار والتجارة والثقافة بين تلك الشعوب والشعب المصري. وللحديث بقية.

* سفير مصر الأسبق في الصين وخبير الدراسات الصينية