ندعو إما في صلواتنا أو ابتهالاتنا بأن «يحسن الله خواتيمنا»، بحيث تكون نهاية رحلتنا في هذه الحياة تحوي إشارات بأن هذا الشخص بات أحب إلى الله ممن حوله من الناس، وعليه فمكانه معه في علاه، راضياً مرضياً في جنته.

كثيرون رأوا ملامح حسن الخاتمة في أحباء أو أعزاء فقدوهم، وأحسب أنني منهم، فقبيل فجر البارحة «يوم عيد الأضحى» وقت نزول الله عز وجل للسماء الدنيا، اختار سبحانه أن يصعد إلى علاه روح جدتي الغالية في حفظه وصونه.

قبيل صلاة العيد، رحلت الغالية جدتي، وظننتها لن ترحل أبداً، وأنها ستبقى لنا كـ«سنديانة» عظيمة جذورها راسخة في الأرض تظلنا جميعاً مهما تباعدت دروبنا، هذا ظني بها منذ فطنت وعرفت بأنها جدتي وأنني أول أحفادها، رحلت كاسرة قلوبنا، حارقة مآقينا بالدموع، تاركة لنا ذكريات عديدة، لم أجدها في أي واحدة منها إلا إنسانة طيبة، تصنع الابتسامة على محياك، يستحيل أن تتركك دون «قدوع» مرتب أو حلويات شهية، وإن اختلفنا كأفراد عائلة هي لنا «الأساس الثابت» الذي لا نختلف على حبه.

تسع سنوات منذ رحيل جدي رفيق دربها، صبرت جدتي، وأصبحت للجميع جداً وجدة، ورغم معاناتها قبيل سنوات استلزمها غسيلاً دائماً للكلية في المستشفى، إلا أنها والله كانت «أقوى» منا جميعاً، كانت ترى الابتلاء حباً من الله لها، كانت تردد دائماً «الحمد لله»، أكثر كلمة سمعناها منها، كانت تؤمن بأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، يختبر صبره، ليطهره من كل الذنوب، وحينما يكون طاهراً نقياً من كل ذنب، يحين وقته لترتفع روحه نقية إلى ملك الملوك.

ما بين خبر وفاتها الذي جاءني من والدي، إلى اللحظات التي تبعت غسلها وتجهيزها لنراها لآخر مرة، لا أعرف وصف حجم الألم والحزن اللذين عصفا بي، فهي التي كنت أبحث عن الحجج لأهرب من بيت والدي وأقضي أياماً وليال عدة عندها في بيتها بالرفاع، وهي التي احتضنتني بكل حب مع جدي رحمه الله حينما «عسكرت» لديهم بذريعة أنني سأكون أقرب لمدرستي الثانوية الرفاع الشرقي، إذ مثلما يقال «أعز من الولد ابن الولد»، فإن أعز من الأم والأب ليسا سوى الجدة والجد، ما بين تلك اللحظتين والمشاعر المتعاصفة بداخلي، تغير كياني بمجرد رأيت وجهها، حينها استوعبت حقيقة «حسن الخاتمة».

وجه أبيض كحال بياض قلبها الذي عرفناه دائماً، كحال يدها السخية بما تجود به على المحتاجين، كحال ابتسامتها وحبها ووجها الباش، كحال أخلاقها التي نصبتها وردة مزروعة في قلوبنا، لم أذكر أنها يوماً أزعجت أحداً أو ضايقته أو نهرتنا أو عنفتنا، كانت «أكثر مكان آمن على وجه الأرض».

الآن كيف أنسى رقم هاتفها الذي كلما اتصلت به أجابتني وهي تضحك: «شفتك في التلفزيون.. شفت صورتك في الجريدة.. شلونك وشلون عيالك.. ربي يوفقك ويحرسك»!

لعلنا نبكي لكني أؤمن بأنك في نعيم أبدي عند رب رحيم، لعلنا نخطئ ونذنب لكنك أنت من تنتظرين لتكوني شافعة لنا، رحم الله أعظم امرأة أحبتني وأحببتها، رحمك الله يا جدتي.