أكثر الأعمال الأدبية التي تدهشني هي تلك التي تغور في أعماق العاطفة، وتستثير الحواس. إنها كتابة تقرأ الكون من داخل الإنسان، وتحفز القارئ على استخدام أكثر من حاسة للقراءة غير البصر. هل بالإمكان فعلاً، أن تقرأ بأذنيك، بأنفك، بفمك؟ وكيف يحفزك النص على ذلك؟

في كثير من الروايات الأوروبية التي صدرت في القرنين الثامن والتاسع عشر التي امتزجت واقعيتها بكثير من الرومانسية، شكلت العاطفة محركاً جارفاً للتفاعل مع النص. رواية كالبؤساء والجريمة والعقاب، وقصة مدينتين، تجعل القارئ يغيب في حالة من الحزن والتعاطف والغضب تجاه أحداث الرواية ومع شخوصها. كان ذلك التحفيز العاطفي ينمي موقفاً مؤيداً أو رافضاً للقيم التي بثها الكاتب في النص. وكان أسلوب التعبير عن العاطفة في النص إما بالمونولوج الداخلي أو بكتابة الرسائل يشغل حيزاً كبيراً من النص، ولا يسبب أي حال من الملل لدى القارئ.

وفي روايات نجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف، تحديداً اعتناء كبير بتفاصيل الوصف. وصف المكان، وصف الأشخاص، وصف الحدث، بحيث يمكنك تخيل المكان كاملاً من خلال التصوير البصري الذي تميز به محفوظ ومنيف، ويمكنك حتى استحضار روائح الأزقة والمناطق الشعبية والمستشفيات أو الحفلات الفاخرة التي تصورها كل رواية. فالوصف الظاهري ينشط حواس القارئ فيلتقط مكونات الرواية كأنه يعيشها.

هذا النوع من النصوص يخرج القراءة من كونها مسحاً ضوئياً لما هو مكتوب، إلى انخراط القارئ في النص وتورطه بحبكاته الدرامية. إنه تجلٍ لأنسنة الأدب وحيويته وحمايته من الحالة الثقافية المتعالية التي باعدت بينه والقارئ تحت ذريعة نخبوية الأدب وفلسفاته وتحديثاته. أن يجد القارئ موطن قدمه في النص. أن يقيم علاقة شرعية بينه والنص تقوم على التعاطف أو الرفض أو التسامح أو الرغبة في المساعدة والإدلاء بالرأي، أو التدخل لحرف مسار الأحداث. أن يعني النص شيء خاصا للقارئ.

والنصوص التي تمنحنا هذه الفرصة السخية من خلال اللغة الدالة بفيض. أو السرد المتعمق المفضي إلى الحيرة وفتح آفاق التوقعات. هي نصوص تتسم بطابع الإنسانية المبدع. ونحن نفتقدها كثيراً.