يجري الحديث عما بات يسمى بالقوة الناعمة، في ظل انفتاح الحدود والسموات أمام تدفق المعلومات والصور والأفكار، التي تعزز دور العوامل غير المادية للقوة، وفي مقدمتها الإبداع الثقافي، والمبادلات الرمزية التي تؤثر في العقول والقلوب، بما يحقق المصلحة الوطنية لأي دولة بوسائل ناعمة، من خلال قوى تتمركز في المجال الثقافي، مما يبوء الثقافة، أهمية بالغة في استراتيجيات وموازنات وأولويات الدول المتقدمة والناهضة. والسؤال هنا: كيف هو وضعنا عربياً في هذا المجال؟ وهل الثقافة عندنا سلطة فاعلة ومؤثرة في السياقات الاجتماعية والسياسية والتنموية الداخلية، فما بالك بإمكانات تأثيرها خارجياً؟

في الواقع، فإن الثقافة في بلاد العرب، لم تبلغ أن تكون سلطة معرفية ناعمة ومؤثرة، لا في الداخل ولا في الخارج، لأنها تفتقر للمقومات التي تمكنها من ذلك، بما فيها الرؤية والموارد. بل ويعوزها كل شيء تقريباً - إذ يراد لها أن تكون فقيرة معدمة في الغالب الأعم- مما جعل الكائن الثقافي في هذه الأمة منبوذاً، لأن الجميع يخاف منه، لأنه ينشغل بالبحث عن الحقيقة، ولأن الأغلب يعيش حالة من الإثم الجماعي، فإنه يخاف من الوقوف، أمام هذا المصباح الكاشف، لذلك يتفق الجميع تقريباً على خنقه وتهميشه، أو تدجينه لتقليص دوره في أحسن الأحوال.

وبالرغم من أن المساحات الثقافية العربية، تبقى هي الأضيق، ومواردها المالية والبشرية هي الأقل، في الموازنات العامة للدول العربية، وكذلك منزلتها في البرامج الانتخابية للنواب الذين يمثلون الشعوب، فإن أول ما تتأزم الأمور، فإن أول من يدفع الثمن في التقليص والتقشف وتأجيل المشاريع، هي الثقافة التي أصبحت كائناً تتناوشه رماح المال والاستهلاك والتهميش. وحتى الفضاءات الثقافية القليلة التي تزين الحياة العربية كديكور في الغالب، فإنها أصبحت مشوهة، منزوعة الوظيفة، تعيش في حالة من الهلامية الرخوة بلا عظام، وجسدها بلا قوام. وهذا شأن أغلب المشاريع الثقافية في الوطن العربي.

ولذلك، فقبل أن تصبح الثقافة ضرورة وقوة ناعمة، فلن تنمو لها عظام، ولن تتحول إلى مشروع. وإذا ما أريد لها أن تكون قوة ناعمة ومؤثرة، يجب أن تكون هنالك قناعة بدور الثقافة الحيوي في حياة الشعوب والدول، فتكون المبادرات والمشروعات الثقافية جزءاً منها، فتتحول إلى جزء من رؤية ثقافية وفكرية، تخدم التنمية والإنسان والحرية، وفق قانون الفعل الثقافي، وتجلياته الإبداعية والإعلامية والسياسية التي تعكس الواقع الثقافي، الذي هو ليس إنتاج ذاته فحسب، بل هو إنتاج البنية الاجتماعية -السياسية.

إن القوة الثقافية، ليست مجرد زينة للمعمار الاجتماعي والسياسي للدول، بل هي جزء لا يتجزأ من الجهد الوطني، لاستيعاب تطور قنوات التبادل الثقافي والفني والتقني بين الدول، فتشكل بعداً أساسياً في بناء القوة، وتحويل البلدان إلى نموذج يحتذى به.