دون الخوض في تفصيل التعديلات الدستورية التي ستتيح للقضاء العسكري محاكمة «المدنيين» الذين يعتدون على الأفراد أو على المنشآت العسكرية، فإن ما سيجعل من تلك التعديلات تقدماً أو تراجعاً، إصلاحاً أو إتلافاً للمبادئ الحقوقية، هو القانون الذي سيصدر من بعد هذا التعديل، هو الذي سيحدد ما إذا كان المشرع سيخرج عن روح الحقوق الإنسانية وجوهرها أو أنه سيحترمها ويحترم المبادئ العامة التي قام عليها الدستور وعلى رأسها أمن المجتمع وأمن الدولة.

إنما الذي يهمنا هو أن العملية التشريعية برمتها سواء كانت على المستوى الدستوري العالي، أو على المستوى القانوني أو حتى على مستوى التدابير والإجراءات واللوائح الداخلية، جميعها توضع وتتغير لتواكب احتياجات المجتمعات والمتغيرات التي تطرأ عليها، تلك قاعدة عامة بنيت عليها التشريعات حتى السماوية منها أو الوضعية، فهناك آيات ناسخة جاءت ونسفت أحكاماً تشريعية سبق أن نزلت في آيات سابقة، وما ذلك إلا ليواكب التشريع الرباني التطورات التي جرت على المجتمع خلال ثلاثة عشر عاماً هو عمر الوحي.

ولا يمكن لأحد أن ينكر أن العالم كله لا البحرين فحسب منذ 2010 إلى اليوم أي خلال السنوات الست السابقات شهد متغيراً لم يكن في الحسبان أبداً استدعى إجراء العديد من التعديلات للقوانين الماسة بالحقوق المدنية، فالعالم كله يشهد الآن حروباً بالوكالة لا عن طريق الجيوش بل عن طريق ميليشيات مسلحة من «المدنيين»،

المدنيون هم الآن جيوش المستقبل، المدنيون هم من يتم تدريبهم تدريباً عسكرياً، فيخضعون لدورات صعبة يجتازون فيها امتحانات ويترفعون من خلالها إلى رتب ويتم تنظيمهم في خلايا تتلقى التعليمات من قيادات مركزية داخل وخارج الدولة، ويتم تزويدهم بأخطر أنواع المتفجرات والأسلحة، هؤلاء «المدنيون» هم «جيوش» المستقبل وهم «عسكريو» العصر القادم.

نحن أمام تعريف جديد للعسكريين المقاتلين وتعريف جديد للمدنيين المقاتلين وتعريف جديد للجيوش وللمؤسسات الأمنية والعسكرية برمتها.

حتى المهام التي يكلف بها هؤلاء «المدنيون» عادة ما تقوم بها جيوش تقليدية لا تقتصر على اغتيال أفراد الأمن فحسب، بل على اختراق مؤسسات محظورة وتفجيرها وحرقها، تلك مهام لا يقوم بها «مدنيون»، أصبح تعريف المدني غير وارد مع هذا الإعداد والتهيئة له ومع مهامه الموكل بها.

هذا المتغير لن يجبر البحرين فحسب على النظر في إعادة تعريف تلك المفاهيم والمصطلحات بل سيجبر العالم كله الآن لإعادة النظر في المقصود بـ«المدني» والمقصود بـ«العسكري»، والخلاف والجدل حول تلك المتغيرات يجري الآن في جميع الدول الديمقراطية التي أسست وحمت ورعت الحقوق المدنية ووثائقها، وهو جدل لأهميته القصوى بنيت على أساسه حتى الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي فرنسا وفي ألمانيا بل حتى في بريطانيا.

فجميع تلك الدول بدأت تكتوي بنار الحروب التي يخوضها ضدهم وضد أمنهم «مدنيون» مؤهلون ومدربون وممولون ومزودون بأشد الأسلحة فتكاً، يحتمون تحت مظلة الحقوق المدنية وينجون من الحساب أحياناً بسببها.

الجدل إذاً لا يدور على القوانين المدنية فحسب إن كانت رادعة أم لا، بل يدور أيضاً على تصنيف الذين يرتكبون الجرائم التي تمس رجال الأمن وتمس المنشآت الأمنية والعسكرية وهم مؤهلون ومدربون تدريباً عسكرياً، هل يعتبرون مدنيين أم «مقاتلين»؟ وأين وعلى أي أساس يتم التكيف القانوني لتتم محاكمتهم؟

في بعض الدول حين عجز التشريع عن إيجاد أجوبة شافية لتلك التساؤلات، كان الحل أن احتالت على تلك القيود كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية فأنشأت المحاكم وأنشأت معها السجون المتنقلة.

المشكلة واحدة التي يواجهها العالم كله لا البحرين فحسب، وأمام البحرين طريقان -حد حاضر- فالمتغيرات مستمرة والتشريع سيستمر في التغير مواكباً لتلك المتغيرات، فإما الاحتيال على القانون أو تعديل الدستور.