نواصل في الجزء السابع من المقال حديثنا عن دور المحكمة الدستورية في حماية الحقوق والحريات العامة. عدت المحكمة الدستورية الانتقاص من الحقوق والحريات أمراً مخالفاً للدستور، فجاء في حكمها أن «وحيث إنه من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن المادة «31» من الدستور، إذ اقتضت الآتي «لا يكون تنظيم الحقوق والحريات العامة المنصوص عليها في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون، أو بناءً عليه. ولا يجوز أن ينال التنظيم أو التحديد من جوهر الحق أو الحرية»، وقد دل ذلك على أن جوهر سلطة المشرع في تنظيم الحقوق يتمثل في المفاضلة التي يجريها المشرع بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم موازناً بينها ومرجحاً ما يراه أنسبها لمضمونها وأجدرها بتحقيق مصالح الجماعة واختيار أصلحها ملاءمة للوفاء بمتطلباتها في خصوص الموضوع الذي يتناوله التنظيم. إلا أن ممارسة هذه السلطة مقيدة بضوابط الدستور وحدوده والتي تعد سياجاً لا يجوز اقتحامه أو تخطيه، فإذا ما عهد الدستور إلى أي من السلطتين التشريعية أو التنفيذية بتنظيم موضوع معين، كان لزاماً على القواعد القانونية التي تصدر عن أي منهما في هذا النطاق ألا تنال من جوهر الحقوق أو الحريات التي كفلها الدستور، سواء بنقضها من أساسها، أو بانتقاصها من أطرافها. وإلا كان ذلك بمثابة عدوان على مجالاتها الحيوية.

وحيث نصت المادة «19» من دستور مملكة البحرين لسنة 2002، في البند «أ» منها على أن «الحرية الشخصية مكفولة وفقاً للقانون».

كما أوردت المحكمة في حيثيات حكمها أنه: «وحيث إن مملكة البحرين قد انضمت إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية للأمم المتحدة، وتم التصديق على انضمامها بتاريخ 12 أغسطس 2006، وصدر بشأن ذلك القانون رقم «56» لسنة 2006 ونشر في الجريدة الرسمية في العدد «2752» بتاريخ 16 أغسطس 2006م، وقد نصت المادة «12/1» من هذا العهد على أن: «لكل فرد يوجد على نحو قانوني داخل إقليم دولة ما حق حرية التنقل فيه...». كما نصت المادة «26» منه على أن «الناس جميعاً سواء أمام القانون ويتمتعون دون أي تمييز بحق متساوٍ في التمتع بحمايته. وفي هذا الصدد يجب أن يحظر القانون أي تمييز وأن يكفل لجميع الأشخاص على السواء حماية فعالة من التمييز لأي سبب كالعرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسياً أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب». وإنه لمن نافل القول الإلماع إلى أن عبارتي «فرد» و«الناس» الواردتين تباعاً في كل من المادتين «12» و«26» آنفتي البيان، إنما تستغرقان الناس كافة ولا تنصرفان فقط إلى من انعقدت له صفة المواطن.

وحيث إنه استصحاباً لهذه المعايير، وتوكيداً لضرورة العمل بمقتضاها، صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الأربعين قرارها رقم 40/144 المؤرخ 13 - 12 - 1985 متضمناً إعلانها في شأن «حقوق الإنسان للأفراد الذين ليسوا من مواطني البلد الذي يعيشون فيه»، مقرراً سريان أحكامه في شأن كل فرد يوجد في إحدى الدول ولا يكون من رعاياها، ومنوهاً بضرورة أن تتقيد الدول في كل تشريعاتها التي تنظم بها دخول غير مواطنيها إليها، وشروط إقامتهم فيها، وما يمكن أن يقوم بينهم وبين رعاياها من الفروق، بالحدود التي رسمتها التزاماتها الدولية، بما في ذلك ما يتعلق منها بحقوق الإنسان. ومبيناً في المادة «3» منه حقهم في حرية التنقل صوناً لحريتهم الشخصية التي لا يجوز الإخلال بها إلا وفقاً للقانون، مما ينبغي أن يكون مكفولاً بقوانينها المحلية، ودون إخلال بالتزاماتها الدولية المتصلة بها. وذلك كله - لا مشاحة - وفق القيود التي يجوز أن تفرضها الدول الديمقراطية في مجتمعاتها لأغراض محددة، يندرج تحتها حمايةُ أمنها القومي، ودعم نظامها العام، وصون أخلاقها، مع ضمان حقوق الآخرين، وبما لا يخل بغيرها من الحقوق المنصوص عليها في هذا الإعلان، وكذلك تلك التي قررتها المواثيق الدولية التي تنظمها.

وحيث إنه من المقرر أن المعايير الدولية المتقدم بيانها، لا يجوز إهدارها من خلال أعمال تناهضها تأتيها الدول التي يقيم غير المواطنين بها، إلا في أضيق الحدود التي تمليها المصالح الوطنية العليا في مجتمع ديمقراطي، فقد أضحى مقضياً أنه كلما كان العمل الصادر عنها متضمناً مساساً بالحقوق التي كفلتها هذه المعايير، أو تحديداً لآثارها، أو كان منبئاً عن إخلالها ولو عن غير قصد، بواجباتها، أو منحدراً - بوجه عام - بمعاملتهم إلى ما دون مستوياتها الدولية التي لا يجوز التخلي عنها، كان إبطال هذا العمل – من خلال الرقابة التي تفرضها هذه المحكمة في شأن الشرعية الدستورية – لازماً أساس ذلك كله ومناط القول فيه ما اقتضاه صدر المادة «18» من الدستور من أن «الناس سواسية في الكرامة الإنسانية».

وانتهت في حكمها إلى أن: «وحيث إن نص المادة «20» من مشروع قانون المرور، وإن لم يجرد الأجنبي من الحق في التنقل، إلا أنه إذ حرمه من الحصول على رخصة قيادة أو قيادة مركبة آلية، فإنه يكون قد نظم هذا الحق على نحو يؤدي إلى انتقاصه من أطرافه اعتسافاً، وإلى التضييق منه تحكماً».

وقد انتهت المحكمة إلى عدم مطابقة المادة «20» من مشروع قانون المرور للدستور، ويمكننا القول بأن المحكمة في هذا الحكم استندت إلى الإغفال التشريعي الذي أدى إلى المساس بالحق في التنقل والانتقاص منه، عندما نظم المشرع هذا الحق تنظيماً قاصراً على نحو يؤدي إلى المساس به أو انتقاصه حينما قصره على فئة الأجانب الذين تقتضي طبيعة عملهم منحهم رخصة قيادة وعـدم تقرير هذا الحق لفئة الأجانب الذي لا تقتضي طبيعة عملهم منحهم لهذه الرخصة، وهو ما يعد إغـفالاً تشـريعياً مخالفاً للدستور، وهو ما يؤكد أن المحكمة اعتبرت عدم تضمين المشرع النصوص التشريعية التي ينظم بها الحقوق والحريات لجانب معين من جوانبها أي نظمها على النحو الذي يؤدي إلى انتقاصها أو إهدارها إغفالاً تشريعياً.

* أستاذ القانون العام المساعد في كلية الحقوق بجامعة البحرين