راحت «السكرة» وجاءت «الفكرة»، ففلان الذي كان في يوم من الأيام «هاموراً» كبيراً، يسير فتهتز الأرض من حوله بسبب الحاشية التي تركض وراءه، يجلس اليوم وحيداً يفكر، والصدمة «تأكل» من جسده وروحه، ولسانه حال يقول: «ياه .. كم الدنيا خداعة»!

حاله كحال كثيرين، لم يستوعبوا إلا متأخراً بأنهم «شروا» كل شيء، و«باعوا» أنفسهم، فكان مصير كثير منهم «الوحدة» و«النبذ» و«سوء الذكر» و«السمعة السيئة».

صادفته فبادرت بالسلام فرحب بي بحرارة، أسلوبه هذا مغاير عما كان عليه سابقاً، أقلها ليس معي، لأن حاله كحال كثير من المسؤولين «يخافون الأقلام وأصحابها»، وأستغرب لماذا هذا الخوف، لكني أستوعبه، فهو خوف يشابه حالة «اللص» حين يرى «شرطياً» يعبر جنبه دون حتى أن يوقفه. حاله مختلف عما كان عليه سابقاً من الناس، الذين كان يراهم من فوق أنفه، ولا يسلم عليهم ولا يعيرهم اهتماماً، بات اليوم يحاول شراء قربهم.

طبعاً حينما كان «هاموراً» كبيراً جالساً على كرسيه الكبير وفي مكتبه مترامي الأطراف، يحتاج لمعجزة حقيقية حتى يدخل عليه أي موظف، فما بالكم بالمواطن صاحب المعاملة.

صاحبنا خائف من الموت بعد تقاعده، وآخر في مثل وضعه بات يقلقه أن يرحل عن الدنيا ولا أحد يدري عنه أو قريب منه. والاثنان باتت تقتلهما مجرد الفكرة التي تكشف لهما «الحقيقة المرة» بأن كل هؤلاء البشر وكل تلك الحاشية الكبيرة، وكل من حولهم «انفضوا»، فالاحترام والتملق والمجاملات والكلام المعسول كان لأجل «الكرسي» وليس لشخوصهم!

تخرج من المنصب، تغادر الكرسي، فينقلب حالك رأساً على عقب. من كان يفتح لك باب المكتب اختفى، ومن كان يحمل بشتك أصبح «فص ملح وذاب»، ومن كانوا يدعونك لمجالسهم ويجلسونك في صدرها لربما حذفوا رقم هاتفك، وسعيك لمقابلة مسؤولين كبار آخرين كنت تدخل عليهم بلا موعد ولا استئذان، بات الحصول على موعد معهم اليوم «ضرب من المستحيل»، فأنت لست أنت بدون منصبك»!

حال كثيرين يعيشون «الوهم»، ويظنون أن الناس تتعامل معهم على طبيعتها، احترام ومجاملات وتقدير وحظوة، لكن «ضربة الواقع» تزلزل كيانهم حينما يغادرون أماكنهم، لا أحد من هؤلاء وكأنه يعرفهم، والناس الذين كانوا يمدحونهم رياءً ونفاقاً ولمصلحة مرجوة منهم، هم اليوم يتصدرون الحديث عنهم، يفصلون لهم «مصانع ملابس» من كلام الذم والشتم وفضح ممارساته.

كنت أقول سابقاً ومازلت، بأنك إن أردت معرفة معدن شخص، فأجلسه على كرسي، فإن تغير عما كان عليه سابقاً من ناحية النزاهة والصدق ونظافة اليد والإدارة الصالحة، فلا خير فيه، لأن الأصيل صاحب المبادئ والقيم لا يغيره أي شيء. وما أقل هؤلاء.

المرحوم الرمز الإداري الكبير غازي القصيبي أورد في مذكراته حادثة معبرة عن شخص أراد دعوته، ولكن الأخير كان واضحاً جداً، فالدعوة للمنصب والكرسي وليس للشخص، فرد عليه القصيبي «دعوتك مقبولة، خذ الكرسي معك، فهو المدعو».

هذا مثال لمسؤول لم «يبع نفسه» للمنصب، وعلى شاكلته يوجد نفر قليلون، لا تغيرهم المناصب، ولا تسحب أرجلهم للفساد والأخطاء بطانة فاسدة متمصلحة، لم يتغيروا على الناس، ولم يلحظ أحد أن هالة الكرسي ومزايا المنصب حولتهم لأشخاص آخرين.

من يستقوي بالمنصب، ويعادي الناس، ويظلم البشر، ويظن كما صاحب الجنة المذكور في القرآن الكريم بأنها «لن تبيد أبداً»، سيأتي عليه يوم يعيش مع «جردة حساب» مؤلمة، يتكفل بها الناس أنفسهم، حاشيته قبل المتضررين من ظلمه، يكون على لسان الناس وينبذه المجتمع، تذكر مساوئه وتعد عليه أخطائه، بل لربما تطاولوا بكل أسف ووصلوا لحياته الخاصة، حينها حتما -وإن كابر- سيعتريه شعور صاحبنا المنصدم بتغير الحال حينما ترك مكانه، حين يتذكر حاله يوم كان «هاموراً» كبيراً، ويوم تغير الآن.

وعلى فكرة، هناك من لا تهمه هذه الأمور، ولا يهمه إن ذكره الناس بسوء يستحقه جراء عمله الخاطئ وسلوكه المنحرف إدارياً وتعامله المنحط مع البشر، أو سجله تاريخ البلد في سجل الفاشلين، لأن هؤلاء همهم أنفسهم فقط، ما يجنونه من مكاسب، أما الناس وما يرونه ومصلحة الوطن فإلى «جهنم وبئس المصير».

هذا النوع الأخير من البشر، هو الذي وجوده في منصب يعد «جريمة» بحق وطن وشعب بأكمله.

ربنا يصلح الحال، ويبدل الفاسدين بالصالحين.