دعاوى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان المتكافئة التي بشر بها معارضو الفنادق لإسقاط الدولة العراقية السابقة أو ما كانوا يسمونه نظام صدام حسين. كان مطلوباً منها أن تحمل معها حزماً من المبادئ والقيم والأفكار الحضارية التي ستترجم الدعاوى السياسية. ولكن من يتابع وضع العراق حالياً وهو «التجربة المنجزة الأولى لمشروع «الربيع العربي»» يستيقن أن الموجات الثورية الموجهة لإسقاط الدول والأنظمة العربية تحمل في جوفها مشاريع رجعية ظلامية يختلف منفذوها من دولة لأخرى.

موجة من الغضب العارم تجتاح العراق بسبب مقترح القانون الذي تقدمت به أحزاب سياسية دينية شيعية لعدة مرات بشأن إجراء تعديلات على قانون الأحوال الشخصية الذي ظل قائماً منذ العصر الملكي عام 1959، والذي يعد في رأي كثير من القانونيين أحد أرقى القوانين العربية في مجال الأحوال الشخصية، وهو ما منح المرأة العراقية عبر العقود الطويلة الماضية مكانتها الاجتماعية والسياسية والقيادية والفنية الرفيعة. وأهم ما تقضي به التعديلات المقترحة من الأحزاب الإسلامية، التي نجحت مؤخراً في الحصول على موافقة مجلس النواب بمناقشة المقترح، تقضي بإلغاء العديد من مواد القانون المدني الموحد وإحالة تلك المواد إلى مذهب كل طائفة في العراق سواء كانت سنية أو شيعية أو غيرها.

هذا المقترح قرأ فيه العديد من المحللين السياسيين والقانونيين ونشطاء المجتمع المدني تعميقا للحالة الطائفية في العراق، وإعادة بعث سلطة المؤسسات الدينية وتقويتها في الهيمنة على الفرد. وانتكاسة للحالة المدنية التي غلبت صبغتها على المجتمع العراقي. وهو وبطبيعة مواده التي تحيل إلى أحكام المذاهب الفقهية سينتج عنه بشكل تلقائي إباحة زواج القاصرات باعتبار الفتاة تدخل سن البلوغ البيولوجي في سن التاسعة والحادية عشر مما يؤهلها للزواج، وسيقنن تشريع زواج المتعة والمسيار، وسيجحف بحق المرأة في قضايا مختلفة.

والمساوئ السابقة التي ستترتب على العدول عن القانون المدني بالصورة الطائفية التي يقترحها القانون الجديد، تذكرنا بمشروع تنظيم الدولة «داعش» تجاه المرأة. الذي أعاد بعث السبايا والجواري، وأباح صيغ الزواج المؤقت، وفرض ملابس محددة للمرأة، وقيود ضابطة لحركتها. فالتجربة الداعشية أثبتت على مختلف مستوياتها أن خطورة «داعش» وإمكانية توالدها واستمراريتها من كيانات سابقة كالقاعدة والنصرة، ليست في كونها جماعات مارقة فحسب، إنما في كونها مجموعة أفكار ماضوية ظلامية، تنسب نفسها لمرجعيات تاريخية وتستوطن عقول البعض، وتنتظر اللحظة المناسبة للتعبير عن نفسها وتنفيذ مشروعها.

ولنا أن نتخيل كيف سيصير الوضع في بلد كالعراق، فقد حالة «الدولة» وغرق في الفوضى، ويطفح سكانه على بركة من الفساد والفقر والحروب والتشرد. من سيحمي فتيات العراق ونساؤه في ظل فشل الدولة؟ سيكون أمام الطفلة اليتيمة أو الفقيرة ابنه الثانية عشر أو الخامسة عشر عاما أن تقبل بالزواج من أحد الرجال كبار السن الميسورين «ليستر عليها»، بدل أن تتشرد في الشوارع للتسول أو بيع الكبريت والبسكويت. وستضطر الأرملة الشابة التي فقدت زوجها في الفوضى والحروب، والمطلقة الشابة التي هُضم حقها في الطلاق، سيكون أمامها خيار زواج المتعة أو المسيار للتكسب الحلال بدل الانحراف والمعصية. ستصبح نسبة كبيرة من نساء هذا البلد المنكوب سلعة بيد من لديه المال من الرجال، وستصير مؤسسة الزواج لدى نسبة كبيرة من النساء الوحيدات أو اللاتي يعلن أسارى، إلى مشروع مهني يوفر لهن المال والأمان و»الستر». وسيعود مفهوم «الستر» المريع الذي يوفره الرجل للمرأة ليضبط حياة المرأة العراقية من جديد ويكسرها أمام الرجل الذي قد يتسلط عليها بفعل الثقافة والواقع الاجتماعي المشوه، وفي ظل غياب كامل للدولة وشلل المؤسسات التي توفر للمرأة فرص حماية نفسها وإعالة أسرتها والعيش بكرامة. تحدث وتتفاقم مثل هذه المظاهر بعد أن كانت المرأة العراقية تتباهي، دونا عن باقي النساء العربيات، بلقب «الماجدات».. إنها الرّدة حقا!!

جميع الأمم المتحضرة قطعت أشواطاً طويلة لتأسيس قوانينها المدنية وترسيخها وفرضها لحماية حقوق مواطنيها، وتحقيق العدالة والمساواة وحفظ الكرامة. وخاضت في ذلك معارك فكرية ضارية. لأن حفظ سلامة المجتمع في حفظ كرامة الفرد وكينونته، وليس بإعادة الاعتبار لمؤسسات ذات منافع ذاتية وسياسية. ومحاولات النكوص، في التجربة العراقية، من القانون المدني المتحضر الذي يتساوى فيه جميع المواطنين بمختلف أديانهم وطوائفهم، إلى أحكام قديمة متعددة وساكنة، يعد ردة حضارية تستوجب مساندة أشقائنا في العراق للحيلولة دون وقوعها. إذ يخشى، إن نجحت تجربة تفكيك الحالة المدنية للعراق، من ارتداد أثرها وامتدادها إلى باقي الدول العربية.