جملة تسمعها دائماً في المجالس، تعبر عن تذمر كثيرين من التداول المتكرر لأخبار السياسة، والغريب أنها تصدر أحياناً من أشخاص «شغلهم الشاغل» الحديث في السياسة، والخوض في تفاصيل التفاصيل المعنية بأية قضية.

السياسة مزعجة، بالإشارة هنا لتعريف «السياسة» بالمفهوم السائد شعبياً، وهي التي تعني الأمور المتعلقة بأحداث عالمية لها تفاصيلها المتشعبة غالباً، وتنسج خيوطها وملامحها السياسات العامة للدول. والإزعاج فيها يتمثل بـ«إطالة أمد» بعض القضايا، أو بتشرذم تفاصيلها الدقيقة هنا وهناك وكأنها بقايا قنبلة انشطارية، يسعى البعض لالتقاط كافة أجزائها المتناثرة، والوصف هنا مجازي يعني الشخص الذي يسعى لمعرفة كافة التفاصيل مهما صغرت.

لكن الناس بعد فترة «تمل»، وهذا أمر طبيعي، لأن بعض القضايا والأحداث «تعيد نفسها»، و«تمتد» بصورة يخيل لك أنها بلا «حسم» أو «نهاية»، توصلك للشعور بأنك تدور في حلقة مفرغة، وقليلون ينتبهون إلى أن الإنشغال بها من «موقع المتفرج» لا «صاحب القرار» أمر يضيع ثواني العمر، ويبدل اللحظات التي يجب أن تستثمر في السعادة بأخرى تعج بالضيق والاستياء و«ارتفاع الضغط».

الحديث هنا ليس معنياً بالسياسة وشجونها وهمومها وتفاصيلها، بل بتأثيرها على الناس المهتمين بها، وبعضهم الواصل إلى مرحلة «الهوس»، بل معني بمجالسنا التي تحول كثير منها إلى ساحات نقاش لا تفضي لخلاصة أو استفادة سوى «اجترار» نفس السيناريوهات والمعلومات، ودون الاتفاق على رأي واحد، وفي النهاية يستوعب الجالس أن رأسه ضج، وأنه ليس صاحب قرار في الموضوع. لذلك يبادرك البعض بالقول بعد ساعات من السجال والجدال بأننا «ملينا من السياسة»!

لكنها ليس وجهة نظر نقدية للمجالس، إذ هناك مجالس بدأت تأخذ منحى آخر يهدف للخلوص إلى فائدة لمرتاديها، وفيها الحديث عن السياسة يتركز على عقد ندوات ولقاءات نقاشية ثرية، بعضها يركز على الجوانب المحلية التي تهم المواطن، وبعضها يعمل بجد لأجل ترسيخ قيم المواطنة وإحياء ذكريات تاريخية متأصلة بالبلد، وكل هذه ممارسات إيجابية نحن بحاجة لها.

جميل أن تطلع على أمور السياسة، لكن الأجمل ألا تنشغل بها بما يطغى على انشغالك بأمور أخرى أكثر إيجابية.

اليوم الإنسان يحتاج إلى مساحة يخفف فيها عن نفسه وطأة المتغيرات من حوله، تحتاج للراحة، وتارة للاستفادة، وهنا نتذكر «المرحومة» القراءة التي باتت على شفا «انقراض» لأننا بالفعل تحولنا لمجتمع لا يقرأ، والأخطر إن قرأ، فإنه لا يعرف اختيار ما يقرأ.

أجمل المجالس هي تلك التي تدور فيها نقاشات معنية بتطوير الذات، وتعزيز آليات التعامل مع الحياة والبشر. لذلك ترون أن كثيرين ينساقون بسرعة وراء الأحاديث التي تركز على البرمجة اللغوية العصبية، وأدبيات التطوير البشري، ورغم أنني شخصياً أقارع ما أقرأه ويمر بي من أحاديث مثالية مشابهة، إلا أنني أرى في كثير من التجارب والإطلاع عليها إفادة تطغى على أحاديث السياسة وغيرها.

بالتالي، هل «مللنا من السياسة»؟! نعم هذا صحيح، لكن رغم أنه لا يمكن إلغاء اقتحامها القسري لحياتنا، إلا أنه يمكن التعامل معها كـ«عارض صحي» يزول بمعالجات إبداله بأمور أكثر فائدة ولها الأثر الإيجابي على حياة الفرد.

أكتب ذلك وأنا من المنشغلين بالسياسة، لكن ممن طموحهم الدائم ألا تكون سوى جزءا صغيرا جدا من «فسيفساء» عملاقة تمثل الحياة بمختلف جوانبها وتشعباتها، بالأخص جوانبها جميلة الوقع والأثر.