نحبُ هذا الوطن، لا بل نذوب فيه عشقاً حتى النخاع، ونذود عنه وفي سبيله بالغالي والنفيس، ومن حق هذا الوطن علينا ألا نجمل واقعه أو نزيفه وألا نبالغ أو نبتدع فيه، بل ينبغي علينا أن نرى الوقائع ونسميّها بمسمياتها.. أن نضع أصابعنا على الجروح والنواقص ومواطن الخلل، ونسلط الضوء على قضايا وهموم هذا الشعب، ونقترح الحلول ونلتمس من أصحاب القرار أخذها بعين الاعتبار، لأننا نؤمن بأن الاعتراف بالمشكلة أول الطريق لحلها.

لذلك عندما يزعم البعض أن البحرين قد قضت على الفقر بكافة أشكاله، فمن البديهي أن تتبادر إلى ذهني كصحافية -ومواطنة قبل ذلك- مشاهد عشرات البيوت المهترئة التي أصادفها كل يوم وتلك التي زرتها طيلة مشواري المهني في سبيل إنجاز تحقيقاتي الصحافية والتي ما من ساتر يسترها عن أمطار الصيف فما بالكم بأمطار الشتاء.

ومن الطبيعي أن أتذكر كل تلك الرسائل التي تردني لطلب المناشدة بمساعدتها على تجاوز ضائقتها المادية، أو مد يد العون لشاب من شباب الأسر المتعففة لمساعدته على إكمال دراسته الجامعية أو حتى إتمام نصف دينه.

وبلا إرادة مني أجدني أناظر كل تلك الشهادات الأكاديمية والتقديرية المهملة على درج المكتب، وأنا واحدة من آلاف في طابور منتظري الوظيفة الحكومية. كما أجدني أتذكر كل الوجوه التي حفر العوز والحاجة أخاديدهما عليها.

ولعل ما أورده هنا ليس حالات فردية بل مجموعة حالات تتشابه وتتقاطع فيها كثير من الأسر البحرينية المتعففة، فأي أسرة اليوم -إلا ما رحم ربي- لا يوجد فيها عاطل واحد على الأقل عن العمل أي أنه لا يوجد لديه مصدر رزق.

إن العاطل عن العمل الذي لا يملك قوت يومه هو بمقاييس الفقر والعوز يعتبر فقيراً، والمديون الذي لا يملك سداد دينه يعد فقيراً، والمريض الذي لا يملك ثمن علاجه هو فقير أيضاً، والجامعي الذي تكبد ما تكبد من مبالغ طائلة للحصول على شهادة جامعية أو شهادة دراسات عليا زاد ثمن بروازها على ثمنها في واقع التقدير والأولوية الوظيفية هو فقير كذلك، فأي فقر ذلك الذي قضينا على كافة أشكاله؟

ولعلي أذكر هنا برنامج "أبشر" الذي عرضه تلفزيون البحرين في شهر رمضان الماضي وقد أعطى من خلال حلقاته الثلاثين صورة مصغرة عما تعانيه شريحة ليست بقليلة من المواطنين، فقد فتق جروحاً غائرة وعميقة في قلوب آباء وأمهات بحرينيين وأعطى نماذج واقعية جداً عن مدى تردي حالة بعض الأسر البحرينية.

سيقول أحدكم: ماذا عن الضمان الاجتماعي الذي تقدمه الدولة لمثل تلك الحالات؟ والجواب نعم، الدولة مشكورة تقدم مساعدات مالية للأسر والفئات المحتاجة، ولكن جميعنا يعرف أن تلك المساعدات لا توفر سوى الحد الأدنى للحاجة خاصة في ظل ما نعيشه من ارتفاع كل شيء.. كل شيء في هذه البلاد، فإذا كان أصحاب الرواتب الجيدة نوعاً ما يضجون بالشكوى فما بالكم بمن يعيشون على المساعدات الاجتماعية؟!

إذا كانت الشمس لا يمكن أن تغطى بغربال فكذلك هو حال قضية الفقر في البحرين، لا يمكن أن يتجاهل وجوده ولو لدى نسبة معينة لا نملك تقديرها في هذا المقام، وعوضاً عن إنكاره وغض الطرف عنه يجب العمل على تقليصه والقضاء عليه من خلال خطط استراتيجية قصيرة ومتوسطة المدى حتى نتمكن من تحقيق أهدافنا الإنمائية.

إننا لا ننكر المنجزات المتحققة في هذا الوطن بل نبرزها ونشيد بها ولطالما أشدنا بكل منجز يتحقق على هذه الأرض الغالية، ولكن في المقابل نشعر بالألم عندما نفاجأ بتصريحات تخالف ما نعيشه من واقع.

الواقعية -أو شيء منها على الأقل- وبخاصة في تصريحات المسؤولين هي ما نتمناه ونأمله، فالواقعية تمنحنا الأمل بأن ثمة جميل قادم، أما إنكار الواقع وتغطيته فيشعرنا بأنه لن يتغير شيء مما نعاني منه.

سانحة:

إن الاعتراف بوجود نسبة من الفقر والبطالة والعجز لدينا ليس عيباً بدليل أن كثيراً من الدول الغنية وذات الموارد الاقتصادية الأوفر لاتزال تورد في تقاريرها نسب الفئات الفقيرة والعاطلة عن العمل واستراتيجيتها نحو تقليص تلك النسب.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد من أغنى دول في العالم، تتحدث آخر التقارير عن وجود ما يصل إلى 41 مليون شخص أو نحو 12.7% يعيشون في فقر فيما يعيش 18.5 مليون في فقر مدقع ويشكل الأطفال واحداً من كل ثلاثة فقراء، كما أن لديها أعلى معدل لفقر الشباب بين الدول الصناعية.

ولذلك لا تأخذنا العزة بالإثم فنبالغ في تقدير واقعنا، خاصة وأننا نعرف محدودية مواردنا وصغر حجم اقتصادنا بالمقارنة مع غيرنا من الدول وبالتالي فإنه ليس عاراً أن يكون ببلادنا فقراء ومحدودو دخل وعاطلون عن العمل، أما العار فهو أن ندفن رؤوسنا في الرمال ونقول "كل شيء تمام" بينما الواقع خلاف ذلك.