"التاريخ لا يموت" عبارة جسدها الواقع وكان شاهدًا عليها، فرغم وفاة أشخاص كانت لهم بصمة لا يستطيع إنكارها أحد، إلا أن مواقفهم، ما زالت حية نابضة، كاشفة عن شجاعة أو خذلان هؤلاء.

أحد هؤلاء، كان الرجل الذي أنقذ العالم من حرب نووية؛ بقرار شجاع، قرر اتخاذه وتحمل مسؤوليته منفردًا، ليسجله التاريخ بين صفحاته بأحرف من نور.



فماذا نعرف عن قصته؟

إنه الملازم ستانيسلاف بيتروف، الذي منع حربًا نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كانت البشرية قاب قوسين أو أدنى منها، في أعقاب إسقاط الاتحاد السوفياتي طائرة مدنية كورية مما أدى إلى مقتل جميع ركابها الـ269، ظنّا منه أنها طائرة عسكرية تحلّق فوق الأراضي السوفياتية، وفقا لموقع آرمز كونترول (الحد من التسلح) الأمريكي.

إسقاط الطائرة التي كان على متنها أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، سبب كافٍ لرد فعل عسكري من قبل المعسكر الغربي والولايات المتحدة، خاصة أن الحادث جاء في ظل تصاعد حدة التوتر بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية.

حادث جاء قبل أيام، من إطلاق نظام الإنذار المبكر الذي يعمل بالأقمار الصناعية، إنذار كاذبا بانطلاق خمسة صواريخ باليستية أمريكية عابرة للقارات تحمل رؤوسا نووية باتجاه روسيا، مما دفع إلى التكهن باندلاع حرب نووية.

لكنّ شعلة الحرب أخمدها الملازم ستانيسلاف بيتروف الذي كان في الخدمة في 26 سبتمبر/أيلول 1983، حيث كان عليه اتخاذ خيار حاسم على الفور، إما التعامل مع التحذير باعتباره إنذارا كاذبا أو إبلاغ رؤسائه، الذين من المحتمل أن يشنوا هجوما مضادا.

إنذار كاذب

وأقنع بيتروف نفسه بأنه إنذار كاذب، مشيرًا إلى أنه استنتج أن الولايات المتحدة لو أرادت أن تشعل حربًا نووية، فإنها ستفعل ذلك بأكثر من 5 صواريخ.

استنتاج كان الصواب يقف إلى جانبه؛ فقد أخطأت الأقمار الصناعية في تفسير انعكاس الشمس عن الغيوم على أنه هجوم صاروخي، بحسب موقع آرمز كونترول (الحد من التسلح) الأمريكي.

ويقول الموقع الأمريكي، إن "بيتروف كان لحسن الحظ الضابط الوحيد من أفراد فريقه الذي تلقى تعليما مدنيا، على العكس من جميع زملائه في الفريق الذين كانوا عسكريين محترفين تعلموا الثنائية الآلية التلقائية الأوتوماتيكية المتمثلة في توجيه الأوامر والتنفيذ".

وحول تلك الواقعة، روى بيتروف في لقائه مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عام 2013، كيف أن القراءات على أجهزة الكمبيوتر صباح 26 سبتمبر/أيلول 1983 رجحت إطلاق عدة صواريخ أمريكية في اتجاه روسيا.

وقال: "بعد مطالعة البيانات (التي ترجح شن هجوم صاروخي) قلت لنفسي إذا أرسلت هذه التقارير إلى مجموعة القادة، فلم يكن لأحد منهم أن يناقش الأمر. كل ما كان عليّ فعله هو التقاط سماعة الهاتف والتحدث إلى القيادات العليا على الخط المباشر، لكنني آثرت التريث".

أول انفجار نووي

ورغم أن التدريب الذي تلقاه بيتروف كان يملي عليه أن يبلغ القادة في الجيش السوفياتي على الفور، إلا أنه أجرى اتصالا بمقر القوات المسلحة وأبلغ عن عطل في نظام الإنذار المبكر.

وبحسب الموقع الأمريكي، فإنه إذا كان بيتروف مخطئا في قراره، فإن أول انفجار نووي كان سيحدث في غضون دقائق، لكن الضابط السابق، قال إنه "بعد مرور 23 دقيقة، لم يحدث شيء. ولو كان هناك هجوم حقيقي، لكنت أدركت ذلك. وهنالك تنفست الصعداء".

وكشفت التحقيقات في هذه الواقعة في وقت لاحق من حدوثها أن القمر الصناعي الروسي رصد ضوء الشمس المنعكس على بعض السحب وعرفه خطأ بأنه محركات لصواريخ باليستية عابرة للقارات.

قرار عقابي

وبعد عدة أيام من هذه الحادثة تلقى بيتروف قرار رسميا بالتسريح من الخدمة، قال عنه، إنه آثر الصمت ولم يتحدث عن تلك الواقعة لعشر سنوات؛ لأنه كان يعتبر الأمر مضرا بسمعة الجيش السوفياتي. وأوضح أنه كان من المخجل أن يقع نظام الجيش السوفياتي بمثل هذا الخطأ.

نشرت تلك القصة في الصحف، بعد سقوط المعسكر الشرقي، وتلقى بيتروف على إثر ذلك العديد من الجوائز العالمية. ورغم تصرفه، إلا أنه لا ينظر إلى نفسه على أنه قام بعمل بطولي، قائلا: «تلك كانت وظيفتي، لقد كانوا محظوظين لأنني كنت في تلك الدورية دون غيري من الزملاء".

وتوفي بيتروف، الذي تقاعد بعد بلوغه رتبة مقدم في الجيش السوفياتي، في 19 مايو/أيار 2017، لكن خبر وفاته لم ينتشر إلا بعد مكالمة هاتفية أجراها المخرج الألماني كاري شوماخر ليهنئه بعيد ميلاده، ليفاجأ بالابن ديمتري بيتروف يخبره بأن والده توفي. وأعلن شوماخر خبر وفاة ستانيسلاف بيتروف عبر الإنترنت، ثم تناقلته وسائل إعلام من دول مختلفة.