أعرف نماذج عديدة لكفاءات، منها مَن تعبت عليهم الدولة في تعليمهم وتدريسهم، ومنهم مَن أبدعوا في مواقع عمل وصاروا نجوماً فيها، لكن تتفاجأ بعد مدة من الزمن أنهم اختلفوا، فتبحث عنهم لتجد أنهم انتقلوا لمواقع عمل أفضل، وبعضهم انتقل للعمل في الخارج.

أتذكر قبل سنوات مضت وفي مجلس الراحل الكبير الأمير خليفة بن سلمان طيب الله ثراه، سأل سموه عن عدد البحرينيين الذين يعملون في الخارج، وحينما حصل على رقم تقريبي، سأل سموه رحمه الله: ولماذا يعمل أبناؤنا في الخارج وليس في بلادهم؟! ووجه السؤال لنا نحن الكتاب والصحفيين.

استأذنت من سموه لأجيب، وقلت حينها بأن الكفاءات تغادر بالضرورة ليست للخارج فقط بل حتى لمواقع أخرى في داخل الدولة، سواء وزارات وهيئات أخرى، أو لمواقع في القطاع الخاص في حالة واحدة، وهي حينما تكون بيئات العمل «بيئات مسمومة».

كيف، واشرح يا فيصل؟ سألني سموه طيب الله ثراه، لأستطرد وأشرح: حينما يتواجد مسؤول لا يملك عدالة ولا إدارة ولا ضميراً، فيحول بيئة العمل إلى جحيم، ويعمد إلى قتل الكفاءات، ويرفع من شأن الحاشية ومن يطبلون له، وحين لا ينفذ توجيهات القيادة والحكومة بشأن الحفاظ على أمانة المكان، ولا يتمثل بالمضامين السامية لمشروع جلالة الملك الإصلاحي التي تؤكد على أن الإنسان البحريني هو ثروة هذا الوطن، حينها ستجد سموك بأن الكفاءات لن تبقى، وستخرج، وستبحث عن أماكن أخرى، بل ستجد بعضها ممن يتحصل على عروض مغرية لا يفكر كثيراً حتى يترك ”البيئة المسمومة“ ليذهب إلى ”بيئة نظيفة“ فيها إدارة محترفة وفيها أجواء عمل مبنية على أساس الكفاءة والقدرات، لا على أساس الشللية واللوبيات.

وأذكر ذات مرة، كنت أتحدث مع صديق عُين في منصب في أحد الأماكن، فقال لي: ذهبت لهذا المكان وأنا أعرف بوجود عدد من الكفاءات، فتفاجأت إذ لم أجد غالبيتهم، فسألت عنهم فقيل لي إن الإدارة السابقة ”قتلتهم“ وزرعت فيهم ”الإحباط“، بل ومكنت أشخاصاً لا يملكون ربع مؤهلاتهم ليتعاملوا معهم بأساليب منفرة، والنتيجة أن الكفاءات خرجت وجئت أنا اليوم لأجد وسطاً مهنياً وبيئة مسمومة وفيها من الأشخاص غير المؤهلين الكثير والذين سيجعلون عملي صعباً جداً.

خلاصة القول وهي نصيحة لكل مسؤول قد يستغرب ويتفاجأ بخروج الكفاءات، لا تستغرب فقد تكون إدارتك هي السبب، قد يكون الأشخاص الذين مكنتهم هم السبب، قد يكون الإحباط وأسلوب التنفير هو السبب، وفي النهاية الوطن لن يخسر لأنهم سيكونون في مواقع أفضل لمن يعرف قدرهم يستقطبهم، وفي المقابل المتضرر هو هذا القطاع أو ذاك والذي سيُعرف ويُشتهر بأنه ذو ”بيئة مسمومة“ تموت فيها كفاءات هذا الوطن الغالي.