لم تعد الثقافة مجردَ مكوِّنٍ أساسيٍّ من مكونات هوية الدول فحسب، بل أصبحت مصدراً للثروة، لا يقل أهميةً عن الثَّرواتِ الأخرى. وأصبحت الدُّولُ والشركاتُ العامّةُ والخاصةُ تستثمر في الثقافة بتجلياتها المختلفة: العلمية والفنية والتراثية والترفيهية، وذلك لأهمية الاستثمار في الصناعات الثقافية والإبداعية والمعرفية، ولمنزلتها المتنامية في العالم، باعتبارها استثماراً مستداماً، يُسهم في نموِّ الاقتصاد وتعزيز مساهمة هذا القطاع في التنمية المستدامة.

وتتنوع مقاربات الدول للثقافة وتوظيفها واستثمارها إلى ثلاثة اتجاهات رئيسة:

- الاتجاه الأول: قصر تدخل الدولة في القطاع الثّقافي على توفير الدّعم الماديِّ لهيئات ثقافيةٍ مستقلةٍ، كما في الأنموذجِ الأنجلو- سكسوني.

- الاتجاه الثاني: تولي الدولة بمختلف هياكلها المركزية، إدارة الشأن الثقافي بشكل مباشر، بوضع الاستراتيجيات والبرامج وتنفيذ المشاريع الثّقافيةِ الكبرى، كما في الأنموذج الفرنكوفوني.

- الاتجاه الثالث: اعتماد اللامركزية في إدارة الشأن الثقافي، بحيث تتولى الأقاليمُ، «الجهات أو المحافظات»، هذه المهمة، وتحتفظ الجهةُ المركزيةُ بدور المخطط والموجه والممول، كما هو الشأن بالنسبة للنموذج الألماني.

ومع هذا الاختلاف في المقاربة، فإن الرسالةَ الأساسيةَ لوزارات أو هيئات الثقافة، تبقى متقاربة، وهي المحافظة على الإرث الثقافي والحضاري للدولة وتوظيفه تنموياً، وإنشاءُ وتعزيزُ البنيةِ التحتية الثقافية، وتشجيعُ الاستثمار في الطاقات الإبداعية الوطنية، ودعمُ سياسات الدولة وتوجهاتها من دون إكراه أو ضغط.

وفي جميع الأحوال، فإن انتشارَ الثقافةِ ونموَّها، لا يستغنيان عن دعم الدولة وحضورها ورعايتها، خاصة فيما يتعلق بتوفير بيئة ثقافيةٍ مُساعِدَة وفاعِلَة، وتوفير حَوَاضن مُؤسَّسية ومراكز علمية وبحثية وإعلامية، وغير ذلك من متطلبات التنمية الثقافية.

ويمكن للدولة بعد أن تُرسيَ القواعد الأساسية، وتنشئَ البيئةَ الخصبةَ المساعدةَ على نموِّ الثقافة والإبداع، أن تبدأ بالانسحاب تدريجياً من مجال التوجيه المباشر والإنتاج المباشر، وتركز على رعاية الإنتاج الإبداعي ودعمه. إلا أن ذلك لا يعني إلغاء كافة أسباب تدخّل الدولة في الإنتاج الثقافي، فذلك أمر لا يرغب فيه المثقفون والمبدعون، لأنه من الضروريِّ أن تستمر الدَّولة في توفير الدّعم والمتابعة والرعاية وإقامة الفعاليات الكبرى أو دعم إقامتها وتنظيمها، على الأقل، وذلك لصعوبة أن يتولى أفراد أو جمعيات وأندية ثقافية أهلية أو حتى مؤسسات القطاع الخاص تلك المهام والمشاريع الثقافية الكبرى.

ومن الضروري أيضاً أن يكون من مهام الدولة العمل على ربط الثقافة في بعديها الوطني والإنساني بالمشروع المجتمعي الذي يعتبر التَّنوع والتّسامح والانفتاحُ جوانب أساسيّة في أيّ عمل ثقافي وإبداعيٍّ. وهذا يستدعي بالضرورة إشراك المثقفين والمبدعين في إدارة الشأن الثقافي وبناء معالمه الأساسية، بفتح الآفاق أمامهم ليكونوا دعامة للتّعدّديّة الثقافية الإيجابيّة والمنتجة، ومساهمين في الاستثمار في هذا القطاع الحيوي ليكون جزءاً مهمّاً من محركات التنمية.