إنه السؤال الذي يورطك فيه الكثيرون، حين تعبر عن توافقك مع بعض سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وتصبح فجأة في موقع دفاع عن النفس من تهمة «الحب». ثم ستجد نفسك مجبراً على تقديم محاضرة مختصرة مفادها أن المواقف والآراء السياسية هي تحليل وانحياز «إديولوجي، أو براجماتي» لا علاقة له بالجهة اليسرى من الصدر حيث يسكن القلب. وإذا انغمست في الشرح والجدال، فإنك قد تضطر إلى أن تفسر موقفك من حلفائه وخصومه في الوقت ذاته، كي تنجو من كم الأزمات التي ورطك بها السيد بوتين.

فاز بوتين في الانتخابات الأخيرة باكتساح كبير. وبهدوء من خصومه قبل مناصريه. من كان يتوقع أن يخسر بوتين؟ لا أحد. ولم يشكك أحد في نزاهة الانتخابات. فلا أظن مواطناً روسياً مستعداً «بجد» لتولي منصب رئيس روسيا، في هذه المرحلة، عدا بوتين نفسه. فروسيا الحالية هي صنيعة بوتين. سأكون ذكية هذه المرة ولن أتحدث عن الديمقراطية. فالكثيرون صاروا مؤمنين بأن الديمقراطية الغربية هي ثوب على مقاس الغرب، لا تخلو من التحايل، لكنها لا تناسب مقاسات باقي العالم. يقال إن أحد زعماء أمريكا انتقد الديمقراطية في الصين، فأجابه الرئيس الصيني: أنا أفهم الديمقراطية أن أطعم ما يقارب مليار ونصف إنسان. فلنتحدث إذن عن روسيا وبوتين.

بزغ نجم فلاديمير بوتين في أسوأ فترة تاريخية تمر على روسيا في القرن العشرين. سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك. حديث طويل عن فساد النظام وعن نجاح المؤامرة الغربية، لا مكان لنقاشه. ولكن روسيا سقطت. خيم عليها الانفلات الأمني والفقر والانهيار الاقتصادي وحتى الحضاري. توزعت كعكة اليورانيوم بين تجار السلاح، وسطَت المافيا على الكثير من مفاصل الاقتصاد. ونساء السوفيت اللاتي سطّرن ملاحم عسكرية أثناء التحاقهن بكافة قطاعات الجيش السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، وقعن في يد النخاسين لتصديرهن لدور البغاء في أطراف العالم. في أحد احتفالات روسيا بالمحاربين القدامى بكى محارب قديم بحرقة وهو يستذكر نضاله العسكري لبناء الاتحاد السوفيتي، ثم معايشته لجمهوريته وهي تحترق وتغرق في العدم حين أصر سكانها على الاستقلال. ليس هذا دفاع عن الاتحاد السوفيتي، إنه سرد لنهاية الإمبراطوريات.

خرج فلاديمير بوتين من وسط هذا الدمار متسلحاً بميزتين هما اللتا منحتاه القوة والكاريزما: الإلمام العميق بتاريخ روسيا والغرب والعلاقة التاريخية المضطربة بينهما. والرغبة الجامحة في إعادة بناء الإمبراطورية الروسية.

خطابات بوتين ليست كخطابات أي زعيم غربي آخر. حتى لو كانت أقل أهمية من ناحية الأثر العالمي في اتخاذ القرار. خطابات بوتين درس تاريخي متعمق في جذور الأزمات مع الغرب، سواء في تاريخ الحروب الطويلة مع الإمبراطوريات الغربية وخصوصاً وقائع الحربين العالميتين الأولى الثانية، أم مسألة حلف الناتو، أو التاريخ الروسي لأوكرانيا والقرم، أو النزوع الشرقي في الثقافة الروسية، وغيرها من القضايا الشائكة في المسألة الروسية. هي ليست خطابات إنها محاضرات تذكي جذور الماضي المهيمن على الواقع السياسي. الماضي الذي يبدو أنه يسكن بوتين ويلهمه حينا، ويؤلمه أحيانا.

هذا التاريخ هو الذي يدفع بوتين لإحياء الإمبراطورية الروسية العظيمة. وهو الذي يجعله يمضي بكل ثقة في صراعه مع الغرب. وأنت تتابع تحركات بوتين عبر السنوات الطويلة تشعر أنه يفهم الغرب أكثر منهم. تشعر أنه يقارع حضارة بحضارة، يواجه إيماناً بإيمان آخر. فالذين درسوا التاريخ هم الأكثر قدرة على فهم الواقع والأنجح في بناء المستقبل. هل نجح بوتين؟ نعم إلى حد كبير. لقد عادت روسيا القوية برغم كل العلل التي مازالت تستوطن جسدها المنهك. عاد الرئيس الروسي زعيماً عالمياً من الذين يرسمون مسار الكرة الأرضية. صارت روسيا تقرر وتقول لا، فتقلب موازين الغرب في كل القارات. صارت تخوض حروباً مباشرة وبالوكالة. وتشكل أقطاباً وتحالفات يهرول خلفها الآخرون.

وبطبيعة الحال والبشر. لم تخل سياسات بوتين من ملاحظات. لكن لن يختلف أحد على فهم بوتين الغزير للتاريخ. وعلى طموحه الوطني في استعادة مجد بلاده. وهذا ما يجعل الكثيرون، ومنهم خصومة، معجبين به. ويعتبرونه زعيماً استثنائياً في أوروبا.