نسير في هذه الدنيا ونحن نعلم أننا في لحظة ما سننتقل إلى حياة أخرى سيتوقف معها العمل، وستكون معها الخطوة الأولى نحو مشاهد الآخرة. نسير بخطوات مُتهلهلة أحياناً وثابتة في أحيان أخرى، ونحن على يقين بأن الله تعالى قد سخّر لنا الأرض ومن عليها حتى نكون خير خلفائه على مساحاتها الشاسعة. بعد كل محطة وكل وقفة وكل تجربة وكل مُفترق من مُفترقات الحياة، نُدرك أننا بحاجة ماسّة لتعلم «فنون التخلي» وأن نكون صفحة جديدة وميلاد جديد في يوم جديد نستمتع فيه بلحظاتنا الآنية ونركل توافه الحياة بعيداً حتى تطأ أقدامنا على المساحات الأجمل التي من خلالها نستطيع أن نقدم الأثر الجميل في حياة سريعة الانقضاء. بعد أن انقضت أوقات «أجمل رحلة» هناك في أرض مكة الجميلة وفي أجواء عرفات الرائعة، تغيرت مشاعرنا عن تلك التي كانت قبلها، وأحسسنا بمعية المولى الكريم وتوفيقه وكرمه، لنرجع معها أصحاء نفسياً وجسدياً، ننشغل بالخير والطاعة والأثر الجميل على حساب تلك الترهلات المُزعجات المُهلكات، ومن أجل أن نكون قامات شامخات من قامات الخير.
بعد أجمل رحلة - تحديداً - تقتنع أنه بمقدورك أن تكون أفضل من تلك الشخصية التي كنت عليها وإن بلغت من العمر ما بلغت، وتقتنع بأنه بمقدورك أن تكون نموذجاً فريداً مؤثراً في المجتمع بأسلوب آخر غير ذلك الذي كنت عليه من قبل، والذي لربما قوبل بتجاذبات بشرية مُزعجة لم تتقبلك في حياتها. فقد أيقنت أنه بمقدورك اليوم الارتحال عن تلك الدوّامة المزعجة التي ظلت تراودك فترات من الزمن، ولم تتمكن من الخلاص منها لسبب بسيط بأنك كنت تحب بعض مساحاتها الخيّرة، ولكن مع الأسف الشديد قوبلت فيها في ومضاتها الأخيرة بردات فعلة مُخيبة للظنون. ولكن بحمد الله تعالى بعد محطة «التخلي والميلاد الجديد» تستيقن أنها كانت رسالة ربانية جديدة، تدفعك للتخلي عن مساحاتك الحالية المُرهقة، وعن تلك اللمحات المُزعجة والمواقف النكدة التي لربما فتكت ببعض أحلامك الجميلة. لقد حان وقت التخلي عنها جميعاً من أجل الانطلاق مُجدداً في مساحات أجمل وبعطاء أفضل، دون أن تنتظر مُعتقدات بعض البشر المريضة.
في محطة ما من حياتك تُدرك أن أجمل فنون الراحة النفسية هي تلك المُتعلقة بإزاحة عوالق الهموم من النفوس، ومسح الصور الذهنية السيئة، والرحيل عن مساحات المُزعجين، والتخلي عن الماضي الأليم، وعن كل مُزعجات الحياة، لأنك تدرك بسهولة أن ما عند الله تعالى هو خير وأبقى، وأن الحياة بجمالها وببساطتها وهدوئها، هي التي تعطيك الأمل بأن تكون فارساً شجاعاً في ميدان الحياة، وإن مورست عليك في بعض الأحيان بعض الضغوطات المُزعجة، لأنك باختصار مؤمن بقدراتك وبصلابتك النفسية وبذاتك التي دفعتك في كثير من الأحيان لتكون نجماً بارعاً في سماء العطاء والأثر الجميل. وعندما تعود ذاكرتك للخلف قليلاً، تستذكر العديد من الأفراد الذين زاملوك يوماً ما في بعض المساحات، ثم انقلبوا فجأة وغابوا عن ساحات الوفاء، ثم تستذكر في المقابل بعض الأوفياء الذين ساندوك لتكون قوياً في الحياة، ووثقوا في قدراتك وإدارتك وخبراتك، وأوصلوك إلى مساحات النضج، لحكمتهم البالغة وقدرتهم على حسن إدارة المواقف. ومع هذا وذاك تدرك يقيناً بأن «التخلي» اليوم يعطيك قوة بالغة بأن تبدأ مساحات أخرى غير تلك التي مضت، تبدأ من خلالها تجربة فريدة من العطاء الحياتي، وتعطي محبتك الحقيقية للمُخلصين والأوفياء في حياتك وهم الذين بقوا معك على وصال، واستشعروا حجم مكانتك في حياتهم، ولم يشككوا ولو للحظة واحدة في مصداقيتك وإخلاصك. هؤلاء هم ستبقى معهم في باقي أنفاس حياتك.
عندما تتأمل الحياة وتتأمل حالك ومآلك ومكوثك المؤقت فيها، تدرك أنك قد أسرفت المقام وأضعت الأوقات في أمور تافهات، ومعارك حياتية مُزعجة، ولهثت وراء غايات كنت تعتقد في فترة ما أنها الأنسب لك في حياتك، ولكنك اكتشفت في نهاية المطاف أنها مجرد أوراق حياتية عابثة وإرهاق نفسي ومُضيعات للأوقات، فلا تستحق أن تُرهق نفسك فيها بعد أن كشفها المولى الكريم برسالة ربانية تُخبرك بأن تتخلى عنها من أجل أن تتحسن حياتك، وتبدأ انطلاقة جديدة مُثلى، تُعطي من خلالها الأفضل بأسلوب آخر غير المعتاد. يكفينا ما مضى، ولا ننتظر قوامة البعض لنحدث التغيير في نفوسنا، فنفوسنا أولى من كل شيء، وهي التي تعرف طريقها لإطلالة أجمل في الحياة، وهي التي تعرف طريق النضج الحياتي الذي يستمد قوّته من المولى الكريم، فهو الذي يختار لنا الأجمل في حياتنا. نعم آن الأوان لنكون الأقوى، ولا نسمح لغبار الأيام بأن تؤثر في نفوسنا من جديد.. لأننا على يقين بأننا مع الله تعالى في كل حين.
ومضة أمل
اللهم اكتب لنا الخير حيث كان ثم ارضنا به.