القومية مصطلح يشير إلى مفهوم اجتماعي وثقافي، ولكنه استخدم في السياسة على نطاق واسع، وباختصار هذا المصطلح يشير إلى رابطة بين الأفراد، فإما أن تكون رابطة دم وعرق – وهي الأشهر – وإما أن تكون رابطة ثقافية، لكنه بكل الأحوال يدل على ارتباط الأفراد بمجموعة واحدة تجعلهم متضامنين فيما بينهم، وقد لعب هذا المصطلح في حياتنا وحياة أسلافنا القريبين، فغير مجراها بالكامل، وبين حلم التضامن، وكابوس الدم، عشنا مئة سنة من الشعارات والخيبات والويلات.

لن أذهب في عمق التاريخ لأستعرض بدايات فكرة القومية وتأثيرها، لكنني سأستعرض سريعاً ما حدث قبل مئة سنة أو أكثر بقليل وهي فترة مفصلية انتقل فيها التاريخ من الحديث إلى المعاصر، وتشكلت الدول الحديثة فغابت دول ونشأت أخرى، وظهرت خارطة جديدة للعالم، والسبب المباشر في ذلك كانت القومية ودعاتها، فالحرب العالمية الأولى التي غيرت مجرى التاريخ وراح ضحيتها ملايين البشر، كان سببها المباشر القومية ودعاتها، فكلنا يعلم أن اغتيال أرشيدوق النمسا فرانز فرديناند في سراييفو في عام 1914، على يد الصربي غافريلو برينسيب، كان السبب في إشعال الحرب، لكن هذا الاغتيال كان بتخطيط وتنظيم وتدريب من منظمة اليد السوداء، التي تأسست في صربيا سنة 1911 على يد مجموعة من الضباط الصربيين القوميين بهدف توحيد الصرب وإقامة دولة واحدة لهم، مع أن الصرب كانوا مواطنين في أكثر من دولة منها ألمانيا والدولة العثمانية، في الفترة ذاتها وبعد أن كانت الدولة العثمانية امبراطورية كبيرة، تضم تحتها أجزاء واسعة من العالم، متنوعة الثقافات والعرقيات والأديان، تعترف بحقوق كل رعاياها على اختلاف انتماءاتهم، ظهر مجموعة من الضباط العسكريين وشكلوا جمعية الاتحاد والترقي، وتأثروا بالقومية الفرنسية مما دعاهم، للدعوة والترويج إلى القومية التركية، وانتهى بهم الأمر إلى تنفيذ انقلاب عسكري على الدولة، ولتتغير السياسة الداخلية فيها من دولة جامعة إلى دولة قومية تركية، تضطهد غير الأتراك وتزدريهم، وهو أمر دفع مجموعة من المثقفين والضباط العرب في الدولة العثمانية إلى عقد مؤتمر في باريس سنة 1913 عرف باسم المؤتمر العربي الأول، كنوع من الرد على الطورانيين الأتراك، وكان هذا المؤتمر نواة القومية العربية التي انتجت أحزاباً فيما بعد.

وبعد نهاية الحرب العظمى وتشكل الدول الحديثة استمرت القومية بطرح شعاراتها، وبإنتاج أحزابها السرية والعلنية ولعب دورها في الدول العربية التي تشكلت حديثاً، فكانت النتيجة انقلابات عسكرية وضياعاً للأرض والحقوق والأمن في دول عدة، وحروب هنا وهناك جرّت الويلات على أبناء المنطقة، وكلها جرت تحت تأثير شعارات وبناء تصورات وقيم غير واقعية، مازلنا نعاني منها إلى يومنا هذا.

لقد حملت القومية ودعاتها آمالاً وأحلاماً لتحقيق الوحدة والحرية والتقدم، لكنها لم تكن واقعية فتحولت إلى خيبات وآلام وصراعات داخلية، وتأثيرها في الواقع كان سلبياً على طول الخط، مليئاً بالهزائم والانكسارات والخسائر، أسهمت في تحويل دول مجتمعاتها متعددة الثقافات، إلى دول فاشلة بسبب ما أورثته دعوتها من تعصب وانعزالية وعنصرية انتهت بصراعات داخلية، في الواقع لابد من إعادة التفكير في هذا الفكر والانتفاع من دروس التاريخ.