* في يوم من أيام الحياة.. تقض مضجعك حوادث الدهر ومفاجآت الأيام.. تلك الأقدار التي تحكمها آيات الله البيانات، وحكم المولى الكريم النافذ إلى قيام الساعة.. إنها لحظات الرحيل الخاطفة التي تخطف من أمامك من تحب.. وأعزاء قلبك الذين ارتويت من مشاعرهم ما يعينك على قضاء حوائج الدهر.. تلك اللحظات المريرة التي ترسم أمام مخيلتك، نفسك التي ستغيب يوما ما عن كل محبيها.. وستتجرع طعم نفس الكأس الذي شرب منه من سبقك.. في كل مرة تمر أمامي تلك الجنازة المسرعة إلى لحدها.. لتنتقل إلى حياة أخرى محفوفة بمخاطر السؤال.. أتخيل نفسي التي بين جنبي.. أتخيل تلك الصورة التي سنمر بها جميعاً.. وقبلها سؤال: ماذا قدمت.. وأتأمل قول المولى الكريم: «يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتيني كنت ترابا».. وأتأمل قوله تعالى: «لكل أجل كتاب».. فأقول يا ليتني كنت بذرة خيرة أبذرها في كل دقيقة في كل مساحات الحياة.. إنها السعادة الحقيقية التي ستبلغ مبلغها في حياتي وقبل مماتي.. فإن حانت ساعة الرحيل.. كنت على موعد مع أجود أنواع الزروع.. وأجني ثماراً يانعة أقابل بها ربي الكريم..

* رحل والدنا الحاج أحمد محمد فلامرزي كلمح البصر بعد أن اعتدنا رؤيته والاستئناس به كل يوم يتسابق معها للصف الأول في صلاتي الظهر والمغرب في مسجدنا العامر، حيث يرتاده لوجود مكتبه بالقرب من المسجد.. رحل بعد أن صلى معنا في اليوم الذي قبله وهو يتبادل الضحكات.. وكنت معه وكما اعتدت ذلك زيارته في مكتبه لشرب الشاي وتبادل أحاديث زمن الطيبين مع ثلة من أحبابنا وآبائنا رعاهم الرحمن.. لم أصدق نفسي وأنا أقرأ الرسالة في عملي في صباح اليوم التالي.. نعم رحل بصمت.. كما كان هادئاً ومتزناً ومقبلاً عليك يبادلك الحب في كل حين بين جنبات المسجد.. رحل بصمت بعد أن أغلق مكتبه الذي قضى فيه سنوات عمره طلباً للرزق ولقاء أحبابه وأصدقائه.. ثم مضى إلى بيته لينام النومة الأبدية.. فلم يستيقظ في دنيا البشر.. بل رحل إلى عالم آخر يرتجي فيه عفو الإله ومغفرته وقبول عمله في دنيا استظل فيها تحت ظل شجرة ثم تركها وانصرف.. الحاج أحمد.. من زمن الطيبين.. أحسبه من الصالحين.. والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً.. كنت أتشوق لتقبيل رأسه والجلوس معه في مكتبه لطيبته ونقاوة قلبه وابتسامته ودماثة خلقه ولطافة كلماته.. لأني أشتاق للجلوس مع «بركة زمان».. فهم الأثر الجميل في حياتنا.. رحل كما رحل غيره من أحبابنا الذين تركوا فجوة كبيرة في حياتنا.. ولكن.. سلوانا أنها الحياة القصيرة التي تتسارع أيامها نحو الرحيل المحتوم.. سلوانا أن المقام هو مقام كل نفس تعيش على هذه الأرض حتى تلتقي في موعد محدد ببارئها.. يحاسبها على كل أعمال الدنيا.. رحم الله والدنا حجي أحمد وجمعنا معه ووالدينا ومحبينا في الفردوس الأعلى وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.

* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء»، رواه الترمذي. الدنيا عند الله تعالى لا شأن لها.. الدنيا ما نحن فيها إلا كدعاة يبلغون دعوة المولى الكريم، وفي اختبار وتمحيص حتى نحصد ما جنيناه في يوم الحساب.. عندما تصادفك فواجع الدهر.. ما تملك حينها إلا أن تصبر.. وتتعظ.. فهي رسائل تنبهك إلى قرب الرحيل.. وإلى نفس المصير.. فالمبادرة حينها لكل خير هو الخيار الأفضل لك حتى تصحح المسار.. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغيا، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر». لذا كن قريباً من ربك في كل حين.. حافظ على استقامتك.. صلاتك لا تتكاسل عنها.. اقرأ كتاب ربك.. تصدق.. صل ركعتين قبل أن تنام.. حافظ على الذكر واجعل لسانك يلهج بذكر الله في كل حين.. تحلى بأخلاق القرآن والنبوة.. فكان خلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن.. استثمر كل فرصة من أجل أن ترضي مولاك الكريم.. ولا تكن فريسة سائغة للدنيا تلعب بأوقاتك بلا أهداف مرجوة.. ليكن همك أولاً وأخيراً إرضاء المولى الكريم.. وعامل كل الناس بقلب سليم.. وبابتسامة تتذكرك بها الأجيال.. كن صاحب أثر في كل حين.

عندما يختارك المولى الكريم لتعمل في ميدان مشبع بالأجور.. فإنك لا تملك إلا أن ترفع يديك بخشوع وتبتهل أن تشكره على ما أنعم عليك به من نعمة قد لا يحصل عليها العديد من البشر.. صحيح أن حياتنا كلها أجور.. إن استطاع المرء أن يحول كل حركاته وسكناته عبادة لربه.. ولكن في الوقت ذاته هناك نفوس مخلصة أكرمها المولى أن تكون في عمل مقرون بأجور الدنيا والآخرة.. أولئك هم من يعملون في أبنية الأعمال الخيرية والإنسانية، ومن نذروا حياتهم أن يكونوا فرسان الخير والابتسامة والفرح في حياة كل محروم أو محتاج أو من كابد الحياة وعاش عيشة العفاف دون أن يعرف عنه أحد.. هنيئا لمن أكرمهم المولى الكريم أن يكونوا في هذا الميدان.. وأجمل ما في الحكاية.. أن الدعوات تتوالى عليهم بالحفظ والتوفيق والسداد والبركة..

* ومضة أمل:

اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا ومن الماء البارد على الظمأ.. اللهم سخرنا لعبادة وطاعتك وخدمة دينك وخدمة وطننا الحبيب وناسنا وأحبابنا.. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.. اللهم اجعل رضاك غايتنا في كل أنفاس حياتنا.. وأحسن خاتمتنا وتوفنا وأنت راض عنا غير غضبان.