الغريب أن العنف سمة بارزه لهذا العصر. سبب الغرابة أننا نتذرع بالحداثة والعقلانية والأنسنة. ومع ذلك نجد أن الحروب تتفشى بمدى لم يسبق له مثيل في العدد والعدة وشدة القسوة. وأن ظواهر العنف تتعدد من عنف جسدي إلى نفسي إلى لفظي. وأن مجالها يتسع ليشمل حالات التنمر عند الأطفال في دور الحضانة والمدارس الابتدائية وحوادث القتل بالسلاح في المدارس العليا في الدول المتحضرة مثل أمريكا. مما يجعل الدراسات الاجتماعية والأنثربولوجية حول العنف تفصل في دراسات موضوعات العنف، فتنحو منحى تاريخياً مرة، ومنحى ثقافياً مرة، وأحياناً لا تستبعد الآثار الأسطورية والمقدسة من الممارسات الطقوسية المؤسِسة للممارسات العنفية في واقعنا المعيش.

من الكتب الأكثر رواجاً هذه الفترة في موضوع العنف كتاب «العنف والمقدس» لرينيه جيرار. هذا الكتاب الذي سيحشر بعض قارئيه من رافضي مواجهة الحقيقة في زاوية الرفض لمجرد الرفض. الكتاب في بعض فصوله يطرح الأسئلة البدائية الأولى عن إنتاج حالات العنف الأولى في التاريخ التي كثيراً ما عبرت عنها الأساطير وكثيراً ما قام الأدب المستوحى من الأساطير بتمويهها. تماماً كما فعل سوفوكليس المسرحي الإغريقي في مسرحيته العظيمة «أوديب ملكاً» حين موه حالة العنف في أسطورة أوديب المتمثلة في قتل أوديب لأبيه «لايوس» ثم زواجه من أمه بحبك تناقضات التراجيديا في بناء تناظري أخفى التكوين العنيف في الأسطورة وفي شخصية أدويب المبنية على «الغضب» و«النزوة»، حسب قراءة رينيه جيرار.

واحدة من الجمل المفتاحية في كتاب «العنف والمقدس» هي أن آليات العنف الفسيولوجية قلما تختلف باختلاف الأفراد والثقافات، فليس أكثر شبهاً بهرٍ أو إنسان في حالة الغضب من هرٍ أو إنسان في حالة الغضب! هذا التوصيف المنهجي ينفي أي وسم تسم به القراءات الإثنية أو التاريخية لأعراق بشرية بالعنف دون سواها، أو تسم أعراقاً أخرى بالسلمية دون سواها. وأحد الفصول المثيرة في الكتاب هو تفصيل المؤلف لمفهوم الأضحية، خصوصاً في المجتمعات البدائية. حيث بين الكاتب أن البشرية كانت تلجأ إلى «الأضحية البشرية» لأسباب دينية أو للصلح الاجتماعي في بعض مراحل الصراعات. وكانت تختار الفئات المجتمعية الأقل ارتباطاً بالجماعة أو الأقل رتبة فيها مثل أسرى الحروب والعبيد والمراهقين والمعاقين والمجانين. ثم عوضت المجتمعات التضحية بالحيوانات عن التضحية بالإنسان باختيار فصائل من الحيوانات هي أقرب للجنس البشري من حيث الألفة ومن حيث قربها وشراكتها للبشر في المجتمعات الرعوية ومن حيث إلمام البشر بالعائلات المتفرعة المتعددة لكل فصيل من الحيوانات كأنواع البقر والخراف وغيرها. والوظيفة الرئيسة للذبيحة الحيوانية هي أنها البديل عن أعضاء المجتمع كافة في حالات النزاعات وأعمال العنف الدموية مما يحمي هذه المجتمعات من الفناء ويضمن استمرار تناسلها. حيث تكون بديلاً عن سفك الدماء البشرية في المجتمعات التي تتواضع على هذا العرف.

وهذا التوصيف نجد له آثاراً في بعض الدول العربية والإسلامية التي تقدم الذبائح كأدوات صلح عند الخلافات وغيرها. ويفسر رينيه جيرار لجوء المجتمعات البدائية للذبائح بغياب المؤسسات الفاصلة في مسائل الصراعات مثل المؤسسات القضائية. ثم يتطرق في السياق نفسه إلى قراءة اجتماعية لوظيفة الثأر «الإيجابية»، التي كانت تسود بعض المجتمعات. إذ يقوم الثأر بردع قاس لعمليات القتل. ومن ثم طورت بعض المجتمعات آليات حفظ المجتمع من استمرار سفك الدماء بالثأر إلى الاستعاضة عن الدم البشري بالدم الحيواني. في رحلة طويلة للبشرية للحفاظ على التعايش الاجتماعي وحالة السلام بين الفئات المتعددة التي تعيش في مكان واحد.

وأنا أقرأ في كتاب «العنف والمقدس» من المقدس إلى الاجتماعي من الدم البشري إلى الدم الحيواني، وكيف عبرت الذبيحة عن الرغبات العنيفة الساكنة في النفس البشرية، ثم كيف امتصت حالة الغضب والانتقام المجتمعي، تذكرت قصة حربي «البسوس» و«داحس والغبراء». فاستناداً إلى الروايات العربية نشبت حربان طاحنتان استمرت كل واحدة منهما أربعين عاماً أو يزيد. حرب البسوس اندلعت لأن فرداً غريباً رمى بسهم ناقة امرأة تسمى «البسوس»، فثارت القبيلة لهذه الجريمة. والحرب الثانية اندلعت إثر عملية غش دبرت في سباق خيل، فعد ذلك إهانة للقبيلة المتضررة. «المتخيل السردي» العربي في الروايتين يكشف أن الحيوانات في الثقافة العربية القديمة هي جزء من المجتمع وفرد من القبيلة ولها الاعتبار ذاته. وربما هذا ما جعل الدم البشري نظيراً لها، وما جعل العوض الفاصل في الحربين هو «الدية» المالية.

التناظر غير المتكافئ في نموذج الحيوان «الذبيح» الفاصل للصراعات البشرية عند رينيه جيرار، والحيوان «الضحية» المسبب للصراعات البشرية في بعض حكايات الثقافة العربية القديمة، يقودنا إلى أهمية دراسات الحكايات الأولى المفسرة للعنف العربي الأول وتتبع تطورها السردي لتفكيك بنية العنف العربي المعاصر. ففي الدراسات الثقافية تعد الحكايات والأساطير مركبات هامة في تفسير النظام الثقافي الذي تتجلى عنه السلوكيات البشرية المعبرة عن الخصوصية الاجتماعية.