سألت الصغيرة أمها، لماذا تصبغين شعرك؟

أجابت الأم: لأخفي الشيب بشعري.

وتساءلت الصغيرة مندهشة: إذا أخفيتِ اللون الأبيض بشعركِ فكيف تعرف صديقاتي أن أمي لديها خبرة ثرية في الحياة؟! كيف أثبت لهن أن أمي تعرف الكثير عن أشياء كثيرة فتستحق أن نستشيرها ونأخذ برأيها وأن تكون مرجعنا وملاذنا.

نظرت الأم إلى المرآة وتذكرت وجه جدتها وما كان يضمه من خطوط صاغها الزمن على وجهها الهادئ، وذلك اللون الأبيض الذي كان يتوج رأسها. ما أروع بياضه إنه يعني لها الكثير، يعني لها مشاعر جميلة مثل: الحنان والرحمة يعني لها الحكمة وهو بر الأمان وجُب تلقي في غيابته أسرارها فلا صدى له، هو بر أمان تلوذ به عندما يعصف بها الزمان، وتذكرت خطوطاً رسمها الزمن على وجه الجدة كم كانت تتأملها وهي تستمع للقصص التي ترويها، وتَضُّمن تلك القصص نصائح وعبراً أضافت إلى تكوينها وأنارت لها دربها الطويل، فكأن تلك الخطوط مجاري أنهار تزخر بفيض من الحكمة.

لم يخطر ببالها أن بياض شعر الجدة أو خطوط الزمن التي تزين وجهها، ستمنحها لقباً يخاف منه الجميع، إنه لقب "المسن"، لم تكن تعني لها تلك الخطوط ولا ذاك البياض أن الجدة من جاءت من زمن آخر بعيد عن زمنها، أو أنها ستتحول لخيل سباق ينتظر رصاصة المدرب عند اعتزاله الملاعب. فما بالنا اليوم أصبحنا نخشى تلك الخطوط ونخاف ذاك البياض، ما بال معانيهما قد تغيرت فلم تعد تدل تلك الخطوط على تلك المعاني الجميلة، بل تدل على أنه شخص متذمر منتقد لكل شيء حوله يعاني مرارة الفراغ واعتزاله عن تحمل أية مسؤولية، وبات يبحث عن أية مهمة أو دور له في الحياة حتى لو كان "متابعة إطفاء مصابيح المنزل". تساءلت لم كل هذا الضجر والقلق من علامات السن؟ لعل الكاميرا هي المتهم الأول، فاليوم أصبحت وجوهنا تحت أضواء الكاميرا في كل لحظة وفي كل مكان، ولم تعد صورنا خاصة بنا نودعها في ألبوم الصور ونغلق عليها الدولاب بمفتاح عتيد، بل باتت صورنا منشورة في كل مكان، وتظهر تفاصيل ملامحنا، ونجدها محفوظة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، فيقارن الناس بين صور اليوم وصورنا قبل عام فيرصد الناس كل خط وكل تغير، حتى بات المظهر شغلنا الشاغل.

ما أروع أن نستمتع بكل مرحلة عمرية من حياتنا: طفولتنا، شبابنا، وحتى شيخوختنا، لماذا نتقبل مرحلة الطفولة ونسعد بمرحلة الشباب ولكننا نخشى المشيب، إن سنة الحياة أن نتطور ونمر بتلك المراحل والإنسان السوي الذي يتقبل هذا التطور، فقد قال الله تعالى "الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوةً ثمّ جعل من بعد قوّة ضعفاً وشيبةً يخلق ما يشاء وهو العليم القدير" الروم 54. أي أن الإنسان يمر بمراحل عمرية هي سنة الله في خلقه تبدأ بضعف ثم قوة ثم ضعف، وضعف الطفولة نسعد به ونستظرفه فياله من ضعف يبعث البهجة في نفوسنا ونسعد بذكراه على مر الزمان، ثم تأتي مرحلة القوة وهي مرحلة الشباب والتي ننعم فيها بصحة وبشرة صافية وقامة مستقيمة، أما مرحلة الكبر فنفر منها ونخفيها عن عيون الناس وكأنها شبح يهاجمنا.

فدعونا نستمتع بمشيبنا ونعيشه كما قسمه الله لنا، دعونا نفخر بتلك المرحلة فلا نستحيي من علامات الزمن على وجوهنا فنبالغ في إخفائها فنغير أشكالنا بطريقة يزدريها الآخرون، فدعونا نعتز بهذه المرحلة بكل ما فيها ولنستثمرها ونستمتع بها ولتكن مرحلة التفرغ لنقل المعرفة للأجيال القادمة، فننقل ما اكتسبناه من خبرات إلى أبنائنا بكل الطرق؛ عن طريق التحدث كالمشاركة في حوارات المجالس، عن طريق الكتابة، بل وعلينا أن نبتدع الطرق لنقل خبراتنا لأبنائنا. فلنتحلَّ بجبة الحكيم الراشد، ولنغير نظرتنا إلى الشيوخ من مسن ضعيف إلى شيخ حكيم.

ولكن مع محاولاتنا المستمرة لتغيير آثار الزمان نجد أن صغارنا غير متقبلين لذلك خاصة إذا حاولنا أن نتجمل بالشكل المبالغ فيه، فهل سيدرك أطفالنا محاولتنا التجمل من أجل أن نخفي مظاهر كبرنا في العمر، أم أن لسان حالهم يرتضي حالنا فيتوقون لخطوط الزمن وجمال البياض باحثين خلالهم عن الحكمة والرشد الذي ينير دربهم باحثين عن شيخ يكون هو ملاذهم وأمانهم.. ودمتم أبناء قومي سالمين.