خارج التنظيرات النقدية والثقافية، يبقى المشاهد العربي يبحث في الأعمال الفنية سواء كانت درامية أم مسرحية أم سينمائية عن خيط واقعي يعبر له عما يدور حوله، أو يفسر له ما لا يتمكن من فهمه من وقائع. وسواء اتفقنا أن هذه هي وظيفة الفن أم لم تكن وظيفته، فإن اتجاه الأعمال الفنية نحو القضايا الوطنية هو وظيفة ثقافية هامة لها أثرها البالغ في التعبير عن الوعي الجمعي الذي يمثل الشرائح الشعبية، خارج الروايات الرسمية التي تمثل السُلُطات المهيمنة، وله، في الوقت نفسه دور في بناء توجهات المتلقين وبلورة وجهات نظرهم حول مختلف قضاياهم الراهنة والملحة.

يعرض حالياً في دور السينما الفيلم المصري «معركة كرموز»، الذي ترك صدى جماهيرياً كبيراً وحقق إيرادات عالية، وهو فيلم من إنتاج شركة السبكي وكتابة سيناريو وإخراج بيتر ميمي وبطولة مجموعة من النجوم، أمير كرارة ومحمود حميدة وغادة عبدالرازق. وقصة الفيلم تدور في حقبة الاستعمار البريطاني لمصر، حيث قام مجموعة من الضباط الإنجليز باغتصاب فتاة مصرية، فنشبت معركة بينهم ومجموعة من الشبان المصريين انتهت بمقتل ضابط إنجليزي وشاب مصري. وتم القبض على الجميع في قسم شرطة «كرموز» بالإسكندرية. وقد طالبت سلطات الاحتلال الإنجليزي بإطلاق سراح الضابط الإنجليزي المتهم باغتصاب الفتاة المصرية، وتسليم الشبان المصريين الذين قتلوا الضابط الإنجليزي الآخر. وهنا يرفض الضابط المصري «يوسف المصري» تلك الأوامر، حيث على الجميع الخضوع للتحقيق ولمحاكمة عادلة تفصل في واقعة الاغتصاب التي تعرضت لها فتاة مصرية.

ونتيجة لتعنت «يوسف المصري» تلجأ سلطة الاحتلال البريطاني لمحاصرة قسم شرطة «كرموز» واستدعاء كتيبة أمنية مصرية للمشاركة في اقتحام القسم. وفي ضوء ذلك تدور باقي الأحداث التي تسلط الضوء على غياب الاستقلالية المصرية، وعلى نظرة الاستعلاء والدونية التي ينظر بها المستعمر للكرامة وللشرف المصريين.

الفيلم تميز فعلاً بإنتاج ضخم لم يتكرر لسنوات طوال. ومع ذلك يبقى فيلماً متوسطاً من حيث البنية الدرامية وأداء الفنانين، عدا الأداء العالي والعبقري للفنان محمود حميدة، حيث اتسمت بعض جوانب أداء الفنانين بالمبالغة والافتعال، والأخطاء الفنية خصوصاً في مشاهد المهارات القتالية. غير أن القيمة الفنية والثقافية للفيلم تكمن في العودة للحقبة الاستعمارية، وتفكيك مفهوم الاستعمار القائم على تسلط قوى خارجية وغازية على الشعب الأصلي، وتمكنها من مقاليد السلطة والحكم، واستعلائها على الشعب وانتهاكها لحرماته وكرامته وكافة حقوقه. تتجلى هذه المعاني في مرحلة تاريخية آنية تعود فيها القوى الاستعمارية القديمة للمنطقة وتبرز فيها قوى استعمارية جديدة، ولكن بحلل مختلفة عن صورة الاستعمار السابق. ويأتي هذا الفيلم في وقت خرجت فيه أصوات ثقافية واجتماعية عديدة تنعى الحقبة الاستعمارية وتسبح بأمجاده ومحامده، وتلعن بكل صراحة وعلانية حركات الاستقلال ومرحلة الاستقلال. زاعمة أن الحكم الاستعماري أدخل الحداثة للوطن العربي ومنح العربي كرامته واحترامه وكينونته!!

توجه السينما المصرية للقضايا العربية المصيرية، ومعالجتها للمحطات التاريخية بقراءة ذات أبعاد دلالية وطنية، هو عودة ميمونة للدور الثقافي النهضوي الذي تمتلك السينما دوراً كبيراً ومؤثراً فيه. وهي مسألة ليست بالسهلة، إذ تستدعي من الأعمال السينمائية والدرامية تطوير أدواتها الفنية، وترقية رمزياتها، كي لا تسقط في المباشرة والخطابية التي تضعف من جودة الأعمال الفنية، وتحولها إلى برامج وثائقية أو دعائية.

فيلم «معركة كرموز» يستحق المشاهدة، والجهود التي بذلت في إنتاجه تستدعي الثناء والتقدير، واتجاه الفن والأدب نحو القضايا الكبرى المؤثرة على مصير الأمة، هو نصيب كان مفقوداً لسنوات طويلة في الأعمال السينمائية، وليته يعود...