وكالات


قبل نحو أسبوعين، سيطرت حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول، وهرب الرئيس الأفغاني أشرف غني خارج البلاد، لتتسارع بحدة وتيرة انسحاب القوات الأجنبية والهيئات الدبلوماسية من البلاد بشكل خلف فوضى عارمة في مطار كابول، لا تزال تبعاتها تتفاعل حتى الآن.

آلاف الأفغان كانوا ضمن مشهد محاولات الفرار يتهافتون على الخروج من بلادهم خوفاً من بطش حركة طالبان. وأظهرت تسجيلات مصورة بُثت على مواقع التواصل الاجتماعي، جموعاً من الأفغان على مدرج الطائرات، فيما كان شبان يحاولون التشبث بسلالم الصعود إلى الطائرات، في محاولة لدخولها.

وسط كل هذا الذعر، ترك موظفو السفارة البريطانية في كابول وثائق التي تحمل بيانات الاتصال الخاصة بالأفغان الذين كانوا يعملون معهم، إضافة إلى السير الذاتية للمحليين المتقدمين لشغل وظائف بالسفارة، مبعثرة على الأرض في مجمع السفارة البريطانية في كابول الذي استولت عليه طالبان، بحسب تقرير صحيفة "ذى تايمز" البريطانية.


المراسل الحربي لصحيفة "ذي تايمز"، أنتوني لويد، تواجد داخل مقر السفارة البريطانية عقب أيام من هروب موظفي وزارة الخارجية البريطانية منها، لينقل المشهد من داخلها.

وعثر المراسل الحربي، الثلاثاء، على الأوراق التي تحدد هوية سبعة من الأفغان، بينما كان مقاتلو طالبان يجوبون المبنى بصحبته.

وكشفت المكالمات الهاتفية التي أجراها لويد، للأرقام الموجودة بالوثائق أن بعض الموظفين الأفغان وأسرهم لا يزالون عالقين على الجانب الخطأ من الجدار المحيط بالمطار، بعد أيام من ترك البيانات الخاصة بهم وسط أكوام التراب المخلفات في غمرة إخلاء السفارة في 15 أغسطس.

وتحول مصير الأفغان الذين عملوا إلى جانب الدبلوماسيين والعسكريين الغربيين، والذين قد يقاسون ويلات عمليات انتقامية من قبل الحكام الطالبانيين الجدد، بعد أن تركتهم الدول الغربية عالقين في بلادهم، إلى رمز لتخلي الغرب عن أفغانستان.

كانت هذه هي المفاجأة البريطانية في غمرة السقوط السريع لكابول إلى درجة أنه يبدو أن بروتوكولات الإخلاء التي تستلزم تمزيق المستندات وتدمير جميع البيانات التي يمكن أن تعرض العاملين الأفغان المحليين، أو أسرهم، أو الموظفين المحتملين، للخطر قد تعطلت.

"لقد قمنا بإخلاء سفارتنا تدريجياً، ولكن بوتيرة متسارعة للغاية بعد التدهور الصادم الذي شهدته الأوضاع في كابول"، وفقاً لما قاله المتحدث باسم وزارة الخارجية البريطانية لوكالة "رويترز".

يأتي اكتشاف هذه الوثائق بعد رفض وزير الخارجية البريطاني، دومينيك راب، طلباً بالتحدث مع نظيره الأفغاني لمناقشة إجلاء المترجمين الذين عملوا في السفارة البريطانية قبل يومين من سقوط كابول.

وتشير هذه الأزمة إلى "الإهمال الجسيم الذي وقع من قبل موظفي السفارة البريطانية ضد حياة الموظفين الأفغان في غمرة اندفاعهم لإنقاذ حياتهم"، على حد تعبير صحيفة "ذي تايمز".

وبحسب الصحيفة، تضمنت الوثائق اسم وعنوان أحد كبار موظفي السفارة في كابول، وموظفين آخرين، وبيانات الاتصال الخاصة بهم جميعاً، إضافة إلى السير الذاتية وعناوين المتقدمين للحصول على وظائف كمترجمين لدى السفارة البريطانية.

وكشفت المكالمات الهاتفية التي أجراها لويد مع الأرقام المسجلة بالوثائق التي تركت ضمن المخلفات المبعثرة على أرضية السفارة، أنه برغم أن بعض الأشخاص المدرجة أسماؤهم تم إجلاؤهم إلى المملكة المتحدة خلال الأيام القليلة الماضية، إلا أن موظفين آخرين بالسفارة لا يزالون عالقين في أوضاع خطيرة في أفغانستان.

كان من بين هؤلاء ثلاثة موظفين أفغان، وثمانية أفراد من عائلاتهم، من بينهم خمسة أطفال، تقطعت بهم السبل بين الحشود العاجزة عن الوصول إلى القطاع الذي يسيطر عليه البريطانيون في مطار حامد كرزاي الدولي في العاصمة الأفغانية كابول. وقال أحد هؤلاء لمراسل الصحيفة: "رجاءً، لا تتركونا وحدنا".

وفي سلسلة من الاتصالات مع كبار مسؤولي وزارة الخارجية القابعين داخل مطار حامد كرزاي الدولي في كابول، تم تسليم بيانات هؤلاء الموظفين المفقودين وتنسيق عمليات إنقاذهم.

رغم ذلك، وفقاً للصحيفة البريطانية، يبقى مصير اثنين من المتقدمين للحصول على وظائف مترجمين لدى السفارة البريطانية، والذين تركت بيانات الاتصال الخاصة بهم مبعثرة على أرض السفارة، يلفه الغموض.

في هذا السياق، أكدت وزارة الخارجية البريطانية، الليلة الماضية، أنه "في غمرة الإخلاء التدريجي لسفارتنا، بذلنا كل الجهود لتدمير البيانات الحساسة".

المشهد داخل السفارة

وقال مراسل الصحيفة، أنتوني لويد، إن افتضاح أمر الموظفين الأفغان كان واضحاً بسبب المعلومات الموثقة في الأوراق التي رأيتها مبعثرة، إلى جانب بقايا حفل شواء، في أرجاء الحديقة الخلفية لمبنى الإقامة الخاص بالسفارة البريطانية.

وأضاف: "في البداية، بينما كنت أسير مع الحرس الطالباني المرافق لي عبر الحي الدبلوماسي المهجور في كابول بحثاً عن صورة للملكة، بدت الأوراق الموجودة تحت طبقات من التراب غير ملحوظة وسط ركام الفوضى الذي خلفته عمليات الانسحاب من السفارة".

شمل هذا الركام سترات وأحذية الحراس الواقية من الرصاص، والمركبات الدبلوماسية المتناثرة عبر الطريق المؤدية إلى حي السفارات، والأوراق الحكومية الرسمية، ولوحة زيتية للفنان البريطاني جيمس هارت دايك لدورية القوة الخاصة، وصناديق المعدات المكتبية، وبطاقات أماكن العشاء الرسمية التي كان يرتادها العاملون في السفارة، و الشعار الملكي الذي يحمل نقوشا ذهبية للأسد ووحيد القرن.

ولم يدرك لويد أهمية هذه الوثائق إلا عندما انحنى لفصحها عن كثب، على حد قوله. وبينما تعهدت دوريات الحراسة الطالبانية بحماية السفارة وأي صورة للملكة يتم العثور عليها لدى من اقتحموا السفارة، ترك الدبلوماسيون البريطانيون البيانات الشخصية الخاصة ببعض الموظفين الأفغان الذين كانوا يعملون في السفارة من غير أن يقوموا بتدميرها.

وشملت هذه البيانات أسماء الموظفين الأفغان، وعناوينهم، وأرقام هواتفهم، إلى جانب البيانات الخاصة بالمتقدمين للحصول على وظائف.

مخاطرة بحياة الأفغان

واعتبرت الصحيفة البريطانية أن موظفي السفارة البريطانيين خاطروا بحياة الموظفين الأفغان، حيث فشلوا في تدمير سجلات البيانات الحساسة برغم البروتوكولات الراسخة.

وتساءلت: "هل يستحق الشاب الأفغاني الذي تقدم للحصول على وظيفة في السفارة خلال هذا الصيف، والذي أدرج بفخر في سيرته الذاتية خبرته السابقة في العمل مع الجيش الأميركي في هلمند، أن يُترك اسمه وعنوانه مفصلاً ورقم هاتفه لعناصر طالبان للاطلاع عليها؟".

وأظهرت الوثائق أيضاً أن الطباخ في السفارة، البالغ من العمر 30 عاماً، هو ابن عم المدير الأفغاني لمبنى الإقامة الملحق بالسفارة.

وقال لويد: "أعرف الآن أن كلا الرجلين اللذين كان اسماهما ومعلومات الاتصال الخاصة بهما منقوشة على الأوراق الملقاة وسط أكوام التراب على أرضية السفارة، هربا إلى المملكة المتحدة خلال الأيام القليلة الماضية، عندما اتصلت بهواتفهما للتحقق".

ومع ذلك، لم يكن الفضل في هذا الهروب يرجع إلى كبار المسؤولين في السفارة، إذ لم يتمكن الرجلان من الوصول إلى المطار "إلا بعد أيام من إخلاء مبنى السفارة" في 15 أغسطس مع دخول طالبان كابول، وفقا لـ "ذي تايمز".

ومع ترك عناوين منازلهم على الأرض لمن يريد أن يرى، كان الرجلان محظوظين بتمكنهما من الإفلات من القبض عليهما، أو "مما هو أسوأ"، على حد وصف الصحيفة.

مشهد مرعب

"نحن خائفون للغاية"، كما أبلغ أحد الموظفين الذين تم التخلي عنهم "لويد" لدى اتصاله به في وقت متأخر من الأربعاء، حيث حاول، رفقة زوجته وابنته، في اليوم السابق على اجتياز البوابة التي يسيطر عليها البريطانيون في محيط المطار، قبل أن تبوء محاولتهم بالفشل بسبب ظهور عناصر طالبان وسط الحشد يحملون السياط، ويطلقون النار في الهواء.

"كان المشهد مرعبا، وأثاًر هلع ابنتي إلى درجة لا يمكن وصفها، لكننا لم نكن نملك أي خيار آخر سوى تكرار محاولة الهروب. لم يعد أمامنا وقت كافي"، وفقا لما قاله في المكالمة الهاتفية.

"يبدو أن وزارة الخارجية فقدت هؤلاء الموظفين، وأن إجلاءهم وقع فقط بعد أن جاءتها أخبارهم عن طريق صحيفة "ذي تايمز"، على حد تعبير المراسل الحربي للصحيفة.

وقالت الصحيفة إن مصير المترجمين الأفغان العاملين في السفارة أو الجيش البريطاني "كان يكمن في قلب الخلاف المثار بشأن قرار وزير الخارجية بالاستجمام على الشاطئ بدلاً من قبول طلب نظيره الأفغاني، محمد حنيف أتمار، بالتحدث إليه" قبل يومين من سقوط كابول.

طالبان أكثر احترافية

واعتبر "ذي تايمز" إن ترك البيانات الشخصية وعناوين المنازل الخاصة ببعض العاملين الأفغان لدى السفارة البريطانية، والمتقدمين إليها للحصول على وظائف على الأرض وسط ركام الأتربة والمخلفات لتطلع عليها طالبان "يضيف إلى عدم الاحترافية التي أحاطت بالتعامل البريطاني إزاء الأزمة الأفغانية".

وأضافت: "على سبيل المفارقة، كانت طالبان، حيث كان يرفرف علمها الأبيض على نقطة التفتيش المؤدية إلى حي السفارات، هي من قدمت نفسها بطريقة أكثر احترافية في الانتصار أكثر من الحكومات الغربية في الانسحاب".

ووصفت الصحيفة البريطانية حالة مبنى السفارة حين دخلها مراسلها بالقول "كانت أرضية المبنى مثخنة بالبطاقات المتناثرة التي تحمل الشعار الملكي والخاصة بالأماكن التي كان يرتادها موظفو السفارة. وقال أحدهم بشيء من السعادة: "اعلنوا هزيمتكم أمامنا حتى نصبح أصدقاء".

وأضافت: "كان واضحاً أن المبنى لم يُنهب، وأن المتعلقات المبعثرة سقطت في غمرة الاندفاع للخروج من المبنى، وليس في خضم فوضى عمليات نهب وقعت بعد هذا الخروج".