تابعت على مدى سنوات عديدة كتابات عبدالله خليفة من خلال عموده اليومي ومن خلال رواياته المنشورة، وكنت أحرص على ذلك دائماً قبل قراءتي السياسية في الصحف، وربما التقينا بصورة عرضية في بعض المناسبات وإن لم يسعدني الحظ بالتحاور معه شخصياً، لكن هذا لم يقلل من إعجابي وحرصي على قراءة كتاباته الفكرية بوجه خاص، ولاحظت أنه ككاتب وكإنسان يتسم بثلاث سمات مهمة وفريدة، خاصة في عصرنا الذي نعيشه في الكتابة من اليمين واليسار والمتأسلمين، وهذه السمات هي:
الأولى: إلمامه الكبير بالتاريخ والثقافة العربية والإسلامية، لذلك كانت كتاباته عنها تتسم بالموضوعية والعقلانية مع استخدام المنهج اليساري في تفسير التاريخ، وهو أكثر المناهج موضوعية، ولم يتلوث عبدالله خليفة بالإيديولوجية الساذجة أو بالانتهازية كما حدث لكثيرين، ولعل أهم ما يميزه في كتاباته الدقة العلمية وسعة الاطلاع والمعرفة الواسعة والأمانة في العرض واتباع منهج التحليل العلمي اليساري.
وهذا يذكرنا بالعصر اليساري الوطني في مصر والعالم العربي، والذي ينطبق عليه القول المأثور «تموت الحرة ولا تأكل بثدييها»، هذا العصر الذي حمل اسم اليسار الوطني النزيه والأصيل الذي شهد شخصيات أمثال أحمد عباس صالح وعبدالرحمن الشرقاوي ولطفي الخولي وجمال حمدان وغيرهم في مصر، والوطن العربي أمثال البعثي المتميز منيف الرزاز، والذي كانت لي حوارات معه أثناء عملي بسفارة مصر بالأردن في أواخر ستينات القرن الماضي وكنت أزوره في منزله.
الثانية: الإيمان بالوطن؛ وهذا أيضاً من الصفات الجميلة لليسار الوطني، وليس اليسار الذي كان يدور في الفلك السوفيتي أو الصيني آنذاك وكان إيمانه ضعيفاً بوطنه، أما يسار اليوم فهو يدور في الفلك الليبرالي الأمريكي أو في فلك رجال الدين المغيب معظمهم عن جوهر الدين، ومن ثم فإنهم يتحاورون بالسياسة الوقتية الانتهازية، ويتنادون بحقوق الإنسان دون إيمان حقيقي وعمق وأصالة وموضوعية، إنما كتعبير يستهدف الحصول على الأموال من الخارج والسير في أجندتهم، لذلك أصبحوا من الأثرياء أو من قادة الإعلام والفكر الليبرالي في هذا العصر.
لم يكن عبد الله خليفة من هؤلاء المسبحين باسم تيارات دينية أو تيارات سياسية تجعله غريباً في وطنه؛ بل عاش ومات ابن هذه البلاد، البار بوطنه وأهله، والمخلص لفكره، والمؤمن بالتحليل الاجتماعي للتاريخ. وقد أبدع في ذلك من خلال تحليله الفكري ورواياته الاجتماعية التي تذكرنا بروايات نجيب محفوظ وتشارلز ديكنز وغيرهما. وكان عبدالله خليفة بعيداً في نفس الوقت عن النفاق السياسي للتقرب من السلطة، لهذا فهو من الفصيلة النادرة للمفكرين والأدباء، وموته يعد خسارة كبرى لليسار الشريف والوطني النزيه.
الثالثة: إن عمق فكر عبدالله خليفة الديني والوطني أعطاه شجاعة في الكتابة والتعبير عن الرأي؛ ويتجلى ذلك في رواياته «عمر بن الخطاب شهيداً»، و»عثمان بن عفان شهيداً»، و«علي بن أبي طالب شهيداً»، وكتب عن «محمد ثائراً»؛ وهو الثائر الحقيقي لأنه لم يطلب منصباً ولا مالاً ولا جاهاً، ورفض العروض التي قُدمت له من قريش، كما لم يتاجر بوطنه أو يتخلى عنه، بل أعلن صراحة عند هجرته من مكة قائلاً «والله إنك لأحب بلاد الله إليّ وأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت».
هذا هو ما أسميه «الثائر الحقيقي»، إنه ثائر بالعلم وثائر بالإيمان، وداعية للحق، مؤمناً بوطنه، وليس ثائراً بالسلاح الضعيف في مجاهل الأرض العربية، أو بالمال الأجنبي الحرام، أو ثائراً سعياً لمنصب كما قال أحد المتأسلمين «إما أن أحكم مصر أو أحرقها»، إن هذا الزمن الذي نعيشه هو من أسوأ الأزمنة، حيث يتم تشويه صورة الإسلام وصورة الثورة، وخلط المفاهيم والقيم وتشويهها، ولقد كان الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله على حق في قولته المشهورة «إن الثائر يثور كالبركان ثم يهدأ لبناء الأوطان»، فليس هناك مفهوم للثائر أفضل من ذلك التوصيف الدقيق، لذلك عندما ثار فلاديمير لينين تحول بعد ذلك إلى بناء الوطن في روسيا، ورفض مفهوم الثورة الدائمة أو الثورة العالمية بخلاف حالتي تروتسكي وماو تسي تونج اللذين أعلنا ثورة دائمة، فذهب تروتسكي للأدغال في أمريكا الجنوبية ومات طريداً بلا أثر أو تأثير، أما ماو تسي تونج فقد دمر بلاده بالثورة الثقافية وسيطرت عليه زوجته وقادته وبلاده للهلاك بعد أن حررها وناضل من أجلها زهرة عمره وشبابه، بينما الثائر الحقيقي مثل دنج سياو بنج كان زعيماً وطنياً مخلصاً وصاحب رؤية سليمة واضُطهد، ثم عاد في لحظة مناسبة وساعده في ذلك وحماه ثائر آخر هو شوان لاي الذي كان ثائراً عاقلاً وحكيماً رغم علمه ومكانته الدولية ودوره السياسي والوطني عبر السنين، فقد عاش في ظل ماو تسي تونج وحمى نفسه من غضبه الانفعالي كما حمى بعض رفاقه، كذلك حالة سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر بن الخطاب وغيرهما الذين اعتزلوا الفتنة رغم أنهم من المبشرين بالجنة ومن ذوي الجهاد في سبيل الله، فقد حاربوا وجاهدوا بدون مطمع، ولم تغرهم الدنيا ولم يستطع أحد أن يتلاعب بمشاعرهم من المنافقين، أو من حسني النية الذين يحيطون بالحكام في كل عصر وزمان.
إن كتابات وفكر عبدالله خليفة البوفلاسة من أفضل الكتابات التحليلية السياسية الاجتماعية التي قرأتها، وهي على غرار كتاب «اليمين واليسار في الإسلام» لأحمد عباس صالح، أو كتابات عبدالرحمن الشرقاوي «الحسين ثائراً، والحسين شهيداً»، وكتابات ودراسات محمد عمارة عن اليسار في الإسلام في المرحلة الأولى من حياته، ولقد نشر عبدالله خليفة روايات عن رأس الحسين وغيره من أعلام الإسلام، وكذلك روايات عن مصر وعبدالناصر وغيرهم الكثير من الأعلام، وقد تنوعت كتابات عبدالله خليفة ما بين التحليل الاجتماعي للتاريخ الإسلامي والعربي وللتاريخ الاجتماعي في البحرين ورغم أنه كان ينشر مقالاته في الصحف، فإنها اتسمت بالعمق والوضوح كما اتسم أسلوبه بالسلاسة والبعد عن التقعر في الألفاظ والمصطلحات التي يستخدمها بعض المتحذلقين الإيديولوجيين، كما شملت الرواية، وكنت أستمتع بما أقرأ من هذه الكتابات، كانت شجاعته دائماً في قول الحق، وقول ما يؤمن به. وينبغي أن أشير إلى أن عبدالله خليفة أخذ قسطاً من تعليمه في مصر في العصر الذهبي الحديث لفكر مصر السياسي الوطني اليساري. رحم الله الفقيد رحمة واسعة وأثابه جزاء ما قدم من علم ومعرفة وفكر لوطنه ولأمته العربية.