في حفل متميز لتدشين كتاب السراب للمفكر الإماراتي جمال سند السويدي أقامه مركز عيسى الثقافي، استمع حشد كبير من المثقفين إلى عرض رائع عن الكتاب بتصوير يكاد يجسم المأساة التي يعيشها عالمنا العربي والإسلامي في هذه المرحلة البالغة الحساسية والخطورة من تاريخه عبر العصور، حيث يتم تشويه صورة الإسلام السمح بيد أبنائه وبما يعبر عن الرؤية العكسية لحقيقة الإسلام ويصوره ديناً عدوانياً ووحشياً لاعقلانياً ولا منطقياً يتحرك في إطار الهوس الجنسي والشهوانية، حيث يجتذب النساء والفتيات المراهقات من العديد من دول العالم في عمل دنيء يحمل اسماً جميلاً لا علاقة له بالحقيقة الإسلامية النورانية، إنما يعبر عن حالات اليأس والإرهاق السيكوباتي والبحث عن المغامرة لفتيات قاصرات ولشباب مراهق فقد البوصلة الصحيحة في العمل وانخدع بشعارات ظاهرها الحق وباطنها الضلال، وللآسف فإن هذه الشعارات خدعت مثقفين وأكاديميين وإعلاميين وبعض رجال الدين من أنصاف المتعلمين ومن الباحثين عن الشهرة والمناصب، ومن ثم حملوا أو رفعوا شعارات ما يسمى بالدولة الإسلامية أو المرجعية الإسلامية أو الحاكمية الإسلامية أو الجهاد أو الخلافة الإسلامية وجاهدوا جهاد الشر ضد إخوة مسلمين، فاستباحوا الحرمات في أقدس أيام الله وهو يوم الجمعة حيث يجتمع المصلون ويأتي الإرهابيون باسم الدين ليدمروا ويلوثوا مكان عبادتهم ويفسدوا فرحتهم، كما يقوم بعض المنافقين بالاتفاق مع أخواتهم في الوطن والقومية ثم لا يلبثون إلا قليلاً ثم يخدعونهم ويخادعونهم وما يخدعون إلا أنفسهم، ويفعلون غير ما يقولون ويتفقون عليه ناسين أنه إذا تقاتل المسلمان فالقاتل والمقتول في النار كما ورد في الأثر.
ونتساءل كيف يبيح المسلم لنفسه أن يقتل أخاه المسلم لخلاف في الرأي أو التفكير أو التصور مستخدماً قنابله وإرهابه ويعلقه في المشانق الوحشية التي تفوقت على أعتى عصور البشرية توحشاً وإساءة للدين القويم، بل لكل القيم البشرية والإنسانية عبر العصور، فكافة الأديان تنهى عن القتل وكافة الأديان تدعو للتسامح والاعتدال والصفح فيفعل هؤلاء الطائفيون المنحرفون المتوحشون عكس ما ينهى عنه الإسلام باسم الحاكمية والمرجعية والخلافة والدولة الإسلامية، التي الإسلام بريء منها براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب. وهم في جوهرهم وحقيقتهم ليسوا إلا ثلة من المنافقين والعملاء الذين يعيثون في الأرض فساداً يقتلون النفس التي حرم الله قتلها بدعاوي التكفير وخلافه ومن أجل إقامة ما يطلقون عليه اسم الدولة الإسلامية والتي لا تمت للإسلام بصلة، إذ إن محمد بن عبدالله لم يكن سفاحاً يقيم دولة بل كان مبعوثاً رحمة للعالمين ولم يبح الكذب قائلاً آيات المنافق ثلاث منها إذا حدث كذب وهاهم أولئك الناس يكذبون تحت شعارات ومسميات باطلة.
كتاب السراب لا يمكن عرضه في سطور قلائل في مقال فهو موسوعة علمية تقوم على البحث الدقيق والمراجع والهوامش المتعددة لتأكيد كل مقولة فيه بدون المجاملة التي تعني النفاق وبدون التجمل الذي يعني الخديعة.
لقد حرص جمال السويدي أن يكون صريحاً وجريئاً وواضحاً في بحثه وعميقاً في تحليله لظاهرة ما يسمى بالإسلام السياسي وهي تسمية لا تمت للإسلام بشيء فالإسلام هو الإسلام وإنما هي ترجمة لمصطلحات أخذت من ثقافة غير ثقافة الإسلام الدين الحنيف وغير ثقافة العروبة التي ترفض العنصرية والصراع وتحبذ الوئام والتوافق وهي التي قبل الإسلام كانت تأوي الفقير وتجير الغريب وتطعم الجائع . في حين أن المنافقين من المثقفين والإعلاميين والسياسيين يروجون عكس ذلك وينخدع بهم كثير من أصحاب النوايا الحسنة والثقافة الدينية المحدودة ومن بينهم أساتذة جامعات يسيرون كالمسحورين وراء رجل يدعي العلم الديني وهو لم يحصل سوى على القشور وينسون العلماء الحقيقيين.
ومع أننا نعيش في عصر الحرية الثقافية والإعلامية فإننا أيضاً نعاني كثيراً مما يحدث. في عصر أصبح الصوت المرتفع للفضائيات والمخادع لمن يقدمون الفتاوى في الدين وهم أبعد ما يكونوا عن العلوم الدينية الصحيحة أو فهم فقه العصر ومنهم مدرسو الألعاب الرياضية أو أساتذة جامعيين تخصصهم التخدير والكيمياء أو علوم الحيوان، ويتولون قيادات ما يسمى بالإسلام السياسي ليتحدثوا عن الدين وليرشدوا المسلمين فإذا كان المرشد أعمى البصيرة محدود الثقافة، فكيف يرشد غيره وإلى أي طريق أو أي دين يقودهم؛ بالتأكيد أنه سيقودهم لغير دين الإسلام المتسامح الذي قال رسوله الكريم دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ولا هي أطعمتها»، والذي قال «دخل رجل الجنة لأنه وجد كلباً يلهث فنزل في البئر وأخرج ماء وسقاه»، هذا الرسول الذي جاء مبعوثاً ورحمة للعالمين يتحول دينه على أيدي هؤلاء القتلة إلى أعمال وحشية وعلاقات منحرفة سعياً نحو السلطة التي لا وجود لها في الإسلام الحنيف، فالرسول رفض المال والجاه والسلطة والسلطان قائلاً لعمه أبي طالب والله يا عمي لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الدين فلن أتركه حتى يظهره الله أو أهلك دونه . إنه دين التسامح والصفح. هذا الإسلام المتسامح المعتدل يحوله البعض إلى وحشية الذئاب الكاسرة ضد أخيه الإنسان مهما أعلن انتماءه للإسلام فتباً لهؤلاء الضالين .
إن كتاب السراب يفضح هؤلاء ويكشف سوءاتهم ويبين ارتباطاتهم بالأعداء وسيرهم وراء أهدافهم الدفينة بهدف الإساءة للإسلام ورفع شعارات هو بريء منها.
إن تقييمي لهذا الكتاب بعد ليلة طويلة لتصفحه أن المؤلف الدكتور جمال السويدي بذل جهداً متميزاً فأصبح الكتاب من العلامات الرئيسة في سبيل إيقاظ الغافلين وإنارة السبيل للساعين للحق والعدل والصفح والتسامح والاعتدال أو لمن يرغب في البحث عن الحقيقة في خلفيات هذه الفرق المتقاتلة المتصارعة. إن السويدي يتعقب نشأة تلك الفرق الحديثة التي هي في جوهرها استنساخ للفرق التي ظهرت في عصور الظلام في التاريخ السياسي الإسلامي حتى قال الشاعر:
يا ليت ملك (ظلم) بني أمية دام لنا
و يا ليت ملك بني العباس ما كانا
وقال آخر
وظلم ذوي القربي أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
إن الملك لله سبحانه وتعالى ليس لهذا الفصيل أو ذاك، وأما الملك الذي يسعون إليه فهو ملك سياسي بامتياز والصراع هو صراع سياسي ولا علاقة له بالدين ولا بالإسلام.
هذا الدين الذي نهى رسوله الكريم عن المساس بالعقائد الأخرى أو الرهبان أو النساء أو الأطفال أو الزرع والضرع يتحول على أيدي هؤلاء إلى قتل بالجرم المشهود لإخوة في الوطن وفي الهوية أو إخوة في الدين بل والطائفة منهم مسلمون في مساجدهم وهم يؤدون الصلاة ومنهم آمنون في بيوتهم وفي أعمالهم.
إن سلوك هؤلاء يعتمد الكذب الفاضح والنفاق والخداع وسوء الفهم للمبادئ والقيم الإسلامية والتفسير المنحرف للقرآن الكريم وآياته ولسلوك صحابة الرسول وأهل بيته وعشيرته وأنصاره والمهاجرين معه حيث كان يسود الإيثار والتسامح والعفو. إن المفارقة المحزنة في هذا الزمان أن بعض من ينتسبون للإسلام ويبشرون بانتصاره وهم لا يعملون ولا ينتجون ويسرقون ويكذبون ويعتمدون على الخارج في طعامهم وكسائهم وفي أسلحتهم وهم لا يدركون كم هي الإساءة للإسلام التي يرتكبونها وهل يتصورون أن الإسلام انتصر بالسيف أو الحرب في تاريخه أو بالقتل الوحشي كلا، إنه انتصر بالحكمة والموعظة الحسنة.
إن تعبير السراب هو تعبير دقيق عن الهدف الذي يسعى إليه هؤلاء حتى إذا جاءه لم يجدوا شيئاً. إن هذه الظاهرة الطبيعية حولها جمال السويدي إلى تحليل اجتماعي وفلسفي لعل هؤلاء أو المخدوعون بأقوالهم يدركون حجم الخداع الذي وقعوا فيه ويتذكرون القول البليغ ألا في الفتنة سقطوا، وها هو الإسلام يقول الفتنة أشد من القتل وهاهم يفتنون الناس مراراً وتكراراً ويقتلونهم وينتهكون كل القيم وكل الحرمات.
تهنئة لجمال السويدي لكتابه القيم الذي يعد من أمهات الكتب التي تدعو بتحليل علمي لليقظة والصحوة الحقيقية للمسلمين ليثوبوا إلى رشدهم إنه بمثابة الصيحة لصحوة إسلامية صحيحة بعيدة عن الأهداف الدنيوية لأصحاب النفوس الساعين للسلطة أو العاملين لمصلحة الأعداء بوعي أو بغير وعي، وبالنسبة لما يسمى بتيار جماعات الإسلام السياسي فقد كشف السويدي في السراب زيف ادعاءاتهم وبطلان مقولاتهم وارتباطاتهم المشبوهة وذلك من خلال منهجه القائم على البحث العلمي والمراجع والهوامش في كل صفحة من صفحات كتابه، ولذلك سيظل هذا الكتاب علامة فارقة في مسيرة الفكر الإسلامي نحو هدفه النبيل بوسائل نبيلة، فالهدف والوسيلة صنوان لا يفترقان، وليس هناك هدف نبيل يتوصل إليه صاحبه بوسائل لا أخلاقية أو بخروج عن القيم كما يفعل المنافقون من دعاة هذا الزمان الرديء الذين شوهوا صورة الإسلام بل وصورة كافة الأديان والعقائد.